السبت، يناير ١٢، ٢٠٠٨

الإضراب العام لأطباء مصر سنة 1951

(( تعود بي الذاكرة لسنة 1951، عندما كنت نائباً بقسم الجراحة ، وكان الدكتور رشوان فهمي وقتها مدرساً لطب العيون بكلية طب الإسكندرية. الحياة السياسية مضطربة ومصر تموج بأفكار سياسية متضاربة ومتطاحنة ، شباب مصر يتطلع إلى حياة مثالية - فنحن غير قابلين للأوضاع السياسية والاجتماعية التي نعيش فيها.

ولم نكن ندري أن العدالة المطلقة لا توجد إلا في السماء ، وأن المدينة الفاضلة لا توجد على هذا الكوكب.... ويمكنني أن أردد الآن قول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

كانت مرتبات الاطباء ضئيلة والحكومة لا تستجيب، فليُضرِب الأطباء إذن، نعم، ولكن كيف يكون ذلك؟ نعم نُضرب عن العمل في العيادات الخارجية بالمستشفيات، ولكن لا بد أن يستمر العمل في الحالات العاجلة (حالات الاستقبال والحوادث) فلا يمكن أن يمتد الإضراب إليها.

بدأت الفكرة في منزل الأطباء النواب بطب الإسكندرية بين الزميل الدكتور علي نوفل وبيني... اقتنع الأطباء النواب والامتياز بالإضراب ولكن هذا لم يكن كافياً. وهنا ظهر الدكتور رشوان فهمي فأعطانا دفعة قوية وأقنع أعضاء هيئة التدريس فأيَّدوا الإضراب - وكوَّنَّا لجنة ، سافر كل عضو منَّا إلى عدد من المحافظات داعياً إلى الإضراب فأضرب جميع أطباء مصر. أتذكر أنني سافرت إلى محافظات القنال: السويس والإسماعيلية وبورسعيد.

دعونا إلى مؤتمر صحفي بالكلية - تكلم رشوان فهمي بشجاعة وطلاقة " إن المبالغ المخصصة لإصلاح حال الاطباء أقل مما يصرف على حفلات عيد ميلاد الملك."
لقد آن لنا أن نتكلم.
ثم دعاني إلى التكلم فقلت أن المبالغ اللازمة لنا أقل من الميزانية التي اعتمدتها الحكومة للإنفاق على سيارات ويخوت الخاصة الملكية...

وكان وزير الصحة عبد الجواد حسين، قد هدد الأطباء بأنه سيقدم للنيابة كل من يضر بحياة المرضى فبينت للصحافة أسلوب الإضراب الذي لا يرفض علاج الحالات العاجلة بل يصر على علاجها، وقدمت لهم قائمة بالعمليات التي أجريت بالمستشفى في اليوم السابق للمؤتمر.

ثم قلت: ونحن نوافق على ما صرح به وزير الصحة، لذلك أطلب تقديم الوزير للنيابة، لأنه المسؤول الأول عن الإضرار بحياة المرضى لعدم توفر العقاقير اللازمة للعلاج، كما هو مثبت في أوراق المرضى، وكنا نحن الأطباء المقيمين نتبع إدارياً وزير الصحة.

وفي اليوم التالي صدرت بعض الصحف وبها أخبار المؤتمر وفي الصفحة الاولى "طبيب يطلب تقديم وزير الصحة للنيابة - مدرس بكلية الطب يعارض إهدار مال الدولة على الحفلات الملكية"

كانت الحكومة التي تحكم مصر هي حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس، انتظرنا أن يقبض علينا ، فلم يقبض علينا أحد ولم يستدعنا أحد -قمة الديموقراطية- قال لي الدكتور رشوان: أعتقد أننا أصبحنا من غير المرغوب فينا في هذه الكلية- وأنت لا تزال نائباً ولا أعتقد أنك ستعين هنا.
- فليكن ما يكون وسنستمر فيما بدأنا فيه ، فلا سبيل إلى التراجع....

استمر الإضراب خمسين يوماً وعمَّ مصر كلها ، وتم إصلاح أوضاع الأطباء بعدها.))

أ.د. مصطفى الرفاعي أستاذ جراحة المسالك البولية ، كلية طب الإسكندرية، متحدثاً عن
إضراب الأطباء عام 1951
من كتاب خواطر طبيب - الطبعة الأولى 1995 - منشاة المعارف

الأربعاء، يناير ٠٩، ٢٠٠٨

من المحجوب إلى لبيب

عقار لوران المنهار

في يوم الاثنين 25-12-2007 ، وفي حي لوران الهادئ انهار العقار رقم 11 بشارع ابن خلكان فجأة، ليقتل 35 شخصا، ويصاب 3 آخرون.

*****


كانت قائمة المتهمين في الحادث طويلة : عمال بناء يقومون بأعمال ترميم في الدور الأول، مالكة العقار، مهندسو وموظفو الحي، مصمم المبنى، المقاول الذي نفذه، من صرح بإضافة أدوار إضافية: الفساد، الإهمال، الغش...إلخ

كان مانشيت جريدة الدستور اليومية: " عمارات المحجوب تنهار في اسكندرية"

****

محمد عبد السلام المحجوب
في 9 يوليو 1997 تولى اللواء عبد السلام المحجوب منصب محافظ الاسكندرية، تسبقه سمعة جيدة عن الأعوام الثلاثة التي قضاها محافظاً للإسماعيلية. تضمنت السيرة الذاتية له خدمة في القوات المسلحة المصرية ثم وزارة الخارجية المصرية كملحق عسكري، وعضويته في جهاز الأمن القومي وعمله كنائب لرئيس الجهاز.


حقق المحجوب خلال سنوات عمله كمحافظ للإسكندرية ما وصف بالمعجزة السكندرية. ساد سكانها شعور بأن الأيام المريعة السابقة التي كانت فيها المخلفات البشرية تملأ مياه الشواطئ بجوار المصطافين، بينما تغرق الشوارع في مياه الأمطار وتملأ القمامة الشوارع ذات الأسفلت المحطم قد ولت بلا رجعة. قام المحجوب بتوسعة كورنيش الاسكندرية الذي كفل سيولة مرورية كبيرة للمدينة ، وأعاد تنظيم محطة مصر ناقلا معظم خطوط الميكروباصات منها إلى الموقف الجديد الذي أنشاه على حدود الاسكندرية، ونقل موقف السوبرجيت من قلب الاسكندرية في وسط البلد إلى منطقة أهدأ في سيدي جابر، وتم في عهده التعاقد مع شركة تنظيف أجنبية لرفع القمامة، وتم تجميل الكثير من الحوائط بجداريات عملاقة، وأعيد بناء وتزيين محطات الترام وأغلب الميادين الرئيسية، كما تم تطوير معظم الشواطئ.

أحب السكندريون تلك الروح الجديدة التي بُثَت في مدينتهم ، وحاز المحجوب على لقب المحبوب لما قام به إضافة لأنه اشتهر بسياسة تحاول دوما مواءمة أوضاع المواطنين وإرضاء مطالبهم المباشرة ما دام ذلك في إمكانه ، سواء في مواءمته لأوضاع مجموعة ورش مخالفة أو سوق شعبي عشوائي أو بنايات مخالفة في الارتفاع...الخ، وما عرف عنه من تواضع وترحيب بلقاء المواطنين والاستماع إلى شكاواهم.(أتذكر شخصيا رؤيتي له في مقعد خلفي في سيارة من سيارات المحافظة - بيجو 406 على ما أذكر- منتظراً فتح الإشارة في أحد الشوارع القريبة من مبنى المحافظة ودون موكب مرافق).

مع كل تغيير وزاري وضع السكندريون أيديهم على قلوبهم مقتنعين أن المحجوب سيُبعَد من مكانه لغير سبب سوى حبهم له، إذ كانوا مقتنعين اقتناعا تاما أن قواعد اختيار المسؤولين هي اختيار الأسوأ الذي يتمتع بكراهية شعبية، وإن حدث خطأ في الاختيار - كحالة المحجوب في رأيهم- يتم التصحيح سريعا.

كانت سياسة المحجوب هي استخدام موارد المحافظة في تطويرها مع تشجيع مساهمات رجال الأعمال عن طريق تقديم تسهيلات لهم أو تطبيع أوضاع المخالفين منهم في مقابل تبرعات عينية - كتجميل ميدان أو دهان بعض المباني- أو مادية بدلا من أن تصب النقود في طرق غير شرعية كرشاوٍ في المحليات مثلا، وتشجيع القطاع الخاص كالتعاقد مع شركة نظافة فرنسية لرفع المخلفات والاعتماد على القطاع الخاص في إدارة الشواطئ العامة.

ظل المحجوب متمتعاً بشعبية عالية وسط مواطني الإسكندرية طوال سنوات توليه لمنصب المحافظ، وإن كانت الحماسة السابقة قد هدأت قليلا. في النصف الثاني من فترة ولايته كان مألوفاً أن تسمع تذمرا وشكوى من أبناء المدينة بعد أن كان كل ما تسمعه هو مديحا له. بدا بعد مرور وقت ما أن ما تم ليس "معجزة" ولا "انجازا تاريخيا"، فالإسكندرية قطعة من مصر على كل حال، وظروف المعيشة فيها كظروف المعيشة في بقية محافظات مصر في عهد مبارك. لم يبد تجميل المدينة أو توسعة الكورنيش مؤثرا في حياة البعض، الذين اشتكوا من تجاهل المحجوب للأحياء الشعبية كليا، التي لا تتمتع بالكثير من الخدمات ويتحول بعضها خلال الشتاء إلى برك كبيرة من مياه الامطار والمجاري، وتركيزه على واجهة الاسكندرية. كما أن البعض تحسر على أيام الشواطئ المجانية لارتفاع تكلفة الدخول والجلوس على معظم الشواطئ. وبدأ البعض في الشكوى من الازدحام الذي تخلقه العمارات ذات الارتفاعات المخالفة. رأى البعض أن تساهل المحافظ في السماح بالارتفاع حول المدينة إلى كتل متلاصقة من الخوازيق قبيحة المنظر، وإن كان الأغلبية يرحبون بذلك الحل لتسهيله من السكن في المدينة، وخفضه لقيمة العقارات، واسهامه في رواج اقتصادي في الاستثمارات العقارية.

هكذا غادر المحجوب موقعه إلى منصب وزير التنمية المحلية في 2007، متمتعا بتقدير مواطني الإسكندرية وإن كانت حماستهم تجاهه أقل مما سبق. (انظر التعليقات)

من سرق الإسكندرية لعلي عيسى ، بدون ناشر، الطبعة الأولى 2005
قرأت وقتها كتابا بعنوان من سرق الإسكندرية لعلي عيسى، يهاجم المحجوب وسياساته بضراوة عارضا لعدة ملفات بالوثائق. تتلخص اتهامات الكتاب في أن رجال الأعمال حصلوا برخص التراب على أراض زراعية أو مملوكة للدولة وهي الأراضي المتاخمة لاسكندرية والتي أصبحت لاحقا الامتداد العمراني للمدينة( جرين بلازا سموحة، الحديقة الدولية وكارفور وداون تاون وأكاسيا..الخ) مقابل تبرعاتهم بتبرعات بسيطة أو مشاركتهم في أعمال تجميل. عرض لإهدار 300 مليون جنيه بمنح سيدة وابنها 25 فدانا في أرض مدينة مبارك الرياضية بعشرين جنيها للمتر بينما تزيد قيمته الحقيقية على ثلاثة آلاف جنيه. ولقضية ردم 20 فدانا من بحيرة مريوط لصالح المستثمر عصمت ناثان لينشأ عليه مصنع اسطوانات بوتاجاز - كيروجاز- مما تسبب في الاضرار بالصيادين في البحيرة الذين رفعوا قضية نظرها القضاء الإداري الذي حكم لصالحهم ببطلان قرار التخصيص والردم وإنشاء المصنع لكن لم يتم تنفيذ حكم المحكمة الذي جاء في حيثياته أن المحافظ أهدر ثروة قومية واعتدى اعتداء صارخا على البيئة. وعرض لقضية عقد الحديقة الدولية حيث تم التعاقد لمدة 20 عاما بمقابل انتفاع 9 ملايين جنيه فقط (حق استغلال المتر أقل من جنيه واحد في السنة) كما تم استغلال أراضي الحديقة لإنشاء مبان خرسانية ومنشآت استثمارية دون مراعاة للبعد الاجتماعي الذي من أجله أنشأت الحديقة، وعرض أيضا لقضية جرين بلازا حيث تم إنشاء مول ضخم وفندق ومدينة ملاهي على أراض زراعية بالمخالفة لموافقة وزارة الزراعة على إنشاء مدينة الملاهي على 6 فدادين فقط من 14، بينما أنشئت المنشآت على الاراضي كلها. لفت نظري أن المؤلف رغم وصفه الحماسي لكتابه بأنه "وثيقة دامغة تؤرخ لفترة تاريخية من الفساد في الإسكندرية لم يحدث في عهود سابقة ونأمل ألا يتكرر في عهود قادمة"، فإنه بدأه بقوله " استغل بعض رجال الأعمال حماس اللواء محمد عبد السلام المحجوب محافظ الاسكندرية في مشروعات التجميل وإضفاء الطابع الجمالي والحضاري في تحقيق ثروات طائلة بالمخالفة للقانون ضاربين عرض الحائط بحرمة المال العام وشعب الاسكندرية وخاصة الفقراء من أهالي الثغر". فكرت أن هناك دائماً "لكن" عند انتقاد أحد السكندريين للمحجوب ، وفي أن هذه الانتقادات تمثل الوجه الآخر للمعجزة، هي الثمن الذي حصل عليه رجال الأعمال مقابل مشاركتهم المجتمعية..

************

المحافظ عادل لبيب يستمع لشرح بينما يقف في موقع العمارة المنهارة بلوران

جاء اللواء عادل لبيب خلفاً للمحجوب في منصب محافظ الاسكندرية. لا تتوفر معلومات تفصيلية عن سيرته الذاتية، وإن كان شهيراً بتوليه منصب مدير الامن بالإسكندرية وبخدمته في أمن الدولة بالبحيرة واقترابه من ملف الإخوان المسلمين، ثم تولى منصب محافظ قنا حيث كانت له تجربة شهيرة أطلق عليها أيضاً المعجزة القنائية ( عن هذه التجربة اقرأ عرض محمد إلهامي الرائع هنا) ثم تولى منصب محافظ البحيرة لفترة محدودة ، حيث اشتهر بفحته لأغلب شوارع مدينة دمنهور - بما أثار شماتة كارهي الدماهرة- ثم قبل أن يكمل ما كان يقوم به، نقل إلى الإسكندرية.

بدأ لبيب فترة توليه لمنصبه بإطلاق تصريحات عن اختلاف طرقه عن طرق المحافظ السابق وعن رغبته في إزالة العقارات المخالفة، والتي يزيد عددها عن خمسين ألفاً. كان هدم منازل في منطقة العجمي ، نتج عنه مصادمات بين الاهالي والأمن المركزي مؤشراً على نهج المحافظ الجديد. توالى الهدم والاحتجاجات بعد ذلك في المفروزة والمنتزه. واصل المحافظ تصريحاته: لن أرحم، لن أسمح ...الخ. أدت سياسات المحافظ في منح التراخيص وعدم السماح بأي ارتفاع مخالف فضلا عن إزالة الأدوار المخالفة غير المسكونة، مع ظروف أخرى عامة ( تدفق أموال من دول عربية، واتجاه الكثيرين للاستثمار في مجال شراء الأراضي والاستثمار العقاري مثلا) إلى ارتفاع في أسعار العقارات جعل من أسعار الشقق في الإسكندرية نكتة سخيفة فعلاً.




رصيف محطم
بدأ بعد ذلك تكسير أغلب أرصفة شوارع الإسكندرية في وقت واحد. أينما ذهبت، تجد أرصفة مدمرة، وعمالا يحفرون ويحطمون في حماس. كان الكثير من الأرصفة سليما بل وتم ربما تم إصلاحه قريبا، لكن ذلك لم يكن مؤثراً، فمهما كان الشارع ضيقاً أو عريضاً، صغيراً أو كبيراً كان يتم تحطيمه والعمل فيه من جديد. ( اقرأ لجدو اسكندر اعتراضاته الفنية على ذلك القرار هنا). كانت الشوارع مزدحمة، ولم يجد المشاة مكاناً يمشون فيه ، وبدت المدينة كأنها خرجت من معركة. توحد السكندريون في سيمفونية طويلة تصب غضبها على المحافظ، وتلجأ لتفسيرات تآمرية كوميدية ( عن أن أحد أقاربه - جوز بنت خالته كما يؤكد لك سائق التاكسي- لا بد مستفيد بصورة ما من تحطيم كل هذه الارصفة) أو ساخرة ( معمول له عمل ومدفون في رصيف، ويبحث عنه).



كافيه بعد البلدوزر
تبدت شخصية المحافظ أكثر بقرارات الهدم التي يتخذها، هدم المنازل المخالفة الذي ذكرته سابقا، أوإزالة سنتيمترات زائدة عن المسموح به في أكشاك الصحف، أو نقل مواقف الأوتوبيسات خارج المدينة ، ومطاردة مواقف الميكروباصات "غير الشرعية" حتى تلك التي لا تؤثر في المرور مهما كان عدد مستخدميها، وتكثيف حملات الإزالة ( ما تسمى بالبلدية في القاهرة) على الأسواق وعلى الباعة الجائلين، أو حتى إزالة الأجزاء البارزة الزائدة من أحد الكافيهات. ( أثر هذا القرار الأخير كثيراً في "فرافير" اسكندرية، فتلقيت ايميلا متداولا بينهم بعنوان عاجل جدا يحوي صور الكافيه وقد تم إزالة أجزاء منه بالبلدوزر -وسيلة المحافظ المفضلة- لأن الكافيه كان ملتقى مفضلا لهم)

عموماً، لإحداث بعض التوازن قبل أن أكمل، هنا لقاء مع المحافظ يعرض فيه لوجهة نظره بخصوص هذه القضايا، ويشرح موقفه.

في ذلك الوقت وبينما أشعر كغيري من السكندريين بالحنق من سياسات المحافظ الجديد، قرأت مقالا نشر في المصري اليوم لعمرو الشوبكي بعنوان ثمن الإصلاح. استفزني المقال جداً، فحصلت على ايميل الشوبكي من صديق وقررت أن أرسل له رداً على ما كتب، لكن للأسف لم أكمل الرسالة وقتها، ثم نسيتها بمرور الوقت. يعرض الشوبكي في مقاله للآراء التي سمعها من مواطنين سكندريين بعد زيارات قام بها للمدينة والتي تنتقد جهود المحافظ ، وهي الآراء التي استغربها لأنه توقع أنه سيجد التجربة نالت إجماعا كتجربة المحافظ السابق في قنا ويكمل ليقول أن تجربة اسكندرية :

" تعطي مؤشرات علي صعوبة عملية الإصلاح، ليس فقط نتيجة غياب الإرادة السياسة من أهل الحكم لإجراء إصلاحات حقيقية إنما أيضا بسبب ثقافة سائدة قائمة علي الاستسهال، والأخطر أنها تعايشت مع الوضع القائم وخلقت أنماطاً مريحة للتعامل معه تعتمد علي الفساد المباشر أحيانا والسمسرة والفهلوة أحياناً أخري،

فكل بناء مخالف كان يبني في الإسكندرية أو في غيرها من المدن المصرية كان يخلق مناصرين من الأثرياء ومن الفقراء، ومن المستفيدين مباشرة منه، ومن غير المستفيدين مباشرة ولكن يستنفعون من بقائه، وصارت هناك شبكة كاملة من الأعمال والصفقات والقيم تستفيد من الأوضاع المخالفة تراكمت علي مدار السنين وأصبح من الصعب تغييرها بسهولة.

والحقيقة أن هناك ثمناً للإصلاح السياسي والإداري غير مستعدة الحكومة لدفعه، وتتناساه بعض القوي المطالبة بالإصلاح، ويغيب عن ثقافة الموظفين الذين لا يعملون، وأساتذة الجامعات الذين نسوا العلم وتصارعوا علي المناصب الإدارية، وكثير من الصحفيين والكتاب الذين لا يصلحوا أن يكونوا قراء.

والمؤكد أن الإصلاح لا يعني فقط انتخابات حرة ونزيهة وتداولاً سلمياً للسلطة، ولكنه سيعني جامعات تخرج علماء وباحثين قبل أن تخرج سياسيين، ومعايير جديدة لاختيار كوادر الدولة والعاملين فيها من قضاة وضباط وموظفين، وإعلام وصحافة مملوكة للشعب وليس لحزب الحاكم.

ولكن السؤال الذي طرح في الإسكندرية سيطرح علي كل مصر، وهو كيف يمكن التعامل مع تشابكات القديم، والأوضاع التي تشكلت علي المخالفات، والأجيال التي خرجت واحتلت مواقع ولم تتعلم شيئا، والمستوي المتردي لمؤسسات الدولة التي صارت جميعها علي مقاس المسؤولين فيها من محدودي الكفاءة والعلم وأحيانا الأخلاق. "

عمرو الشوبكي
ثم ينهي مقاله بضربه مثالا بالجامعة، وقوله أن أي رغبة في اصلاح أحوال الجامعة ستواجه بقوة من المنتفعين من أوضاعها من نظام المعيد الخالد، ومن المحاباة وأولاد الأساتذة..ألخ

كنت سأقول للشوبكي أن الحديث عن ثمن الإصلاح في الاسكندرية يفترض بداية أن ما يقوم به المحافظ في الإسكندرية هو إصلاح. كنت سأقول له أن القرارات الفردية والإصرار على العنف لا يسهل اعتبارهما إصلاحاً. كنت سأقول له أن السخط الذي ولده تنفيذ القوانين دون مخالفات ليس بسبب وجود شبكة من الفساد والسمسرة والفهلوة في المدينة، بل لوجود أزمة سكن تفرض خرق القانون، أو تتطلب من الدولة الوصول لحل آخر بدلا من حصر الناس وظهرهم إلى الحائط، لأن البديل هو "خراب بيوت" الكثير من الشرفاء -وليس اللصوص أو الفهلوية- الذين يعملون في مجال العقارات، وخراب بيوت فعلي لممتلكي المنازل المخالفة. يفترض تأييد المستبد العادل الإيمان بوجود فرد ذي رؤية إصلاحية في مواجهة جماهير جاهلة، ويتناسى أن المعارضة للإجراءات التي يتخذها الجمهور لهذا الديكتاتور تكون في الأغلب لأسباب مصلحية مباشرة كما هو واضح في حالتنا هذه ، أو لإحلال نخب جديدة مكان نخب قديمة مثلاً في حالة القرن التاسع عشر ، بينما تُسَفَّه هذه المعارضة بإلحاقها بأسباب ثقافية كالجهل في القرن التاسع عشر، أو استمراء الفهلوة والفساد في حالتنا هنا. بذل الكثير من المؤلفين جهوداً كبيرة لتفكيك الخطاب السلطوي القمعي الذي استخدم في مصر القرن التاسع عشر من قبل المستبدين المستنيرين، ولكن... نحن، في القرن الحادي والعشرين، محافظ مستبد مستنير إيه بس!! كنت سأقول له أن للإصلاح ثمنا بالفعل، ومثال أساتذة الجامعة مثال جيد، وإن كان يُفترض به أن يدرك أن على الباحث عن الإصلاح في الجامعة أن يلتفت إلى أن أكبر مؤيد ومساند لجهوده سيكون من جموع المصريين المتضررين المباشرين من أوضاع الفساد والمحاباة بالجامعة، وهؤلاء هم أغلبية المتعاملين مع الجامعة، من الذين لا يتلقون تعليما مناسبا، أو يُفَضل عليهم أبناء الأساتذة في الدرجات والتعيين...الخ، بدلا من التحسر على المصريين الجهلة محبي الفساد الذين ينتظرون النخبة المستنيرة لتصلح أوضاعهم رغم مقاومتهم العنيفة لذلك.

لكن لم أرسل ذلك الإيميل للأسف.

المهم، بمرور الوقت، ومع انتهاء العمل في الأرصفة، بدأ إعادة رصف الشوارع، وتم إعادة رصف عدد من الشوارع الرئيسية فضلا عن بدء العمل في شوارع عدد من الأحياء الشعبية التي ربما لم يتم رصفها منذ عشرات السنين. أدت هذه الاجراءات إلى تحسن في شعبية المحافظ، وإن كانت الأغلبية لا تزال تحمل تجاهه مشاعر سلبية. بدأ العمل أيضاً في مشروع إدخال الصرف الصحي إلى العجمي، وهو مشروع إن تم في الوقت المحدد لذلك، سيكفل تقديراً كبيراً للمحافظ. العجمي هي منطقة كبيرة الحجم يسكنها مئات الآلاف من الطبقة الوسطى، وهي واحدة من أواخر المناطق العشوائية الرائعة حيث كان بإمكانك أن تبني فيللا من دورين وتمد شارعاً أمام منزلك يتسع ويضيق حسب مزاجك وتسميه شارع المهيب الركن فلان الفلاني. المحصلة النهائية طبعا كانت بحراً من القبح الاسمنتي والعشوائية وتحول العجمي إلى بركة كبيرة من المياه السوداء كريهة الرائحة يمكنك أن تركب فيها جندولا كلما هطلت الأمطار في الإسكندرية.


**********************


من الممكن تفسير الاختلاف في أساليب وطرق تعامل كل من المحافظَين - عوضا عن إرجاعه إلى اختلافات في شخصية كل منهما- بالتفكير في المؤسسة التي جاء كل منهما منها. فالمحجوب جاء من جهاز الأمن القومي ، بينما جاء لبيب من الشرطة و/أو أمن الدولة. يجعل هذا لدى الاول إدراكاً لتعقيدات الحياة، وفهماً أوسع لمفهوم الأمن، بينما يجعل لدى الثاني اهتماماً عالياً بهيبة الدولة وسطوتها والتطبيق الحاسم للقانون.


النظام القوي والدولة الضعيفة - سامر سليمان - الطبعة الثانية 2006 - الدار للنشر
لكن إذا أردنا أن نبتعد عن الشخصنة، فسنلجأ لتفسير اجتماعي - اقتصادي من كتاب الاقتصاد السياسي الهام لسامر سليمان " النظام القوي والدولة الضعيفة : إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك". يعرض الكتاب للأزمة المالية وعجز الموازنة وكيف حاول النظام التواؤم معها، واختار تجربتين من محافظتين مختلفتين نجحتا في تحقيق تنمية محلية أفضل من بقية المحافظات. كانتا للمصادفة تجربة المحجوب في الإسكندرية ، وتجربة لبيب في قنا. عنون حديثه عن الإسكندرية ب"الشراكة بين الدولة ورجال الأعمال"، بينما عنون حديثه عن قنا ب" نموذج المستبد العادل". يفسر سليمان الاختلاف بين التجربتين في استنتاجاته بعد عرضه للتجربتين ب:

"اختلاف طبيعة التركيبة الاقتصادية الاجتماعية في المحافظتين.

الإسكندرية هي المدينة الأكثر سكاناً والأشد ثراءً بعد القاهرة.....ولكن قنا على الجانب الآخر هي محافظة فقيرة ، تحتل المرتبة الواحدة والعشرين بين 26 محافظة في الجمهورية من حيث التنمية البشرية ... التكوين الإجتماعي مختلف في المحافظتين. الإسكندرية يوجد بها طبقة متطورة نسبيا من رجال الأعمال ، بينما لا توجد طبقة رجال أعمال في قنا. يوجد فقط أغنياء هنا وهناك. وعلى هذا فإن الشراكة بين المحافظة ورجال الاعمال مستحيلة في قنا.

وتواجد رجال أعمال في مدينة ما يغير في العلاقة بين السلطات المحلية والسكان. في قنا يستطيع المحافظ أن يستخدم الشدة والحزم مع السكان المحليين بدون صعوبات كبيرة. إنه يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع محافظ الإسكندرية أن يفعل... استخدام العصا. عندما كان كاتب هذه السطور بمكتب المحافظ لإجراء المقابلة كان اللواء لبيب يستقبل في ذات الوقت مقاولاً مكلفاً بتنفيذ أعمال في المحافظة. لم يتورع المقاول عن تعنيف المقاول واتهامه بالنصب. ووفقاً لمصادر في المدينة ، فإن الجملة الشهيرة التي تتردد من جانب المحافظ لمن يعتبرهم من المتكاسلين أو غيرهم هي "هاعتقلك". خلاصة القول إن النموذج الذي يعمل به محافظ قنا هو نموذج "المستبد العادل". وهو يعتمد على أسلوب استبدادي في فرض ما يريده، لكنه يخفف من الطابع الاستبدادي بحقيقة أنه يستبد من أجل تطبيق العدل والنظام. وهو الامر الأصعب في محافظة الإسكندرية. فيصعب علينا أن نتصور أن يتعامل المحافظ بنفس القدر من الاستبداد مع طبقة رجال أعمال متطورة أومع نخبة قوية كالتي توجد في الإسكندرية. كان لفرض رسوم قنا على سكان الإسكندرية أن يخلق مقاومة شديدة. لذلك حينما يطلب المحافظ من السكان مساهمات في تنمية المدينة يجب أن يعتمد أكثر على أسلوب التبرعات. هكذا ما يدفعه القناوية في شكل رسوم يدفعه السكندريون في شكل تبرعات.

النمطان المختلفان في التعبئة لهما نتائج مختلفة. الإسكندرية اليوم تحمل ختم رجال الأعمال . انظر إلى الميادين وإلى النافورات التي تحمل أسماء رجال الأعمال . انظر إلى شواطئ اسكندرية التي أصبحت مخصصة، وانظر على الجانب الآخر إلى كورنيش قنا الذي يظل ملكية عامة. ...
... نحن إذن أمام تجربتين في تمويل الدولة، عن طريق الضرائب والرسوم القسرية بدون أن يكون للمجتمع كلمة في تقرير هذه الضرائب، أو عن طريق التبرعات الطوعية التي يقوم بها الاغنياء مقابل منافع محددة. وفي الحالة الأولى نحن أمام استبداد من الدولة، وفي الحالة الثانية نحن أمام استبداد للدولة إلا مع رجال الأعمال."


***********
في أحد الايام التي استغرقتها كتابة هذه التدوينة ، كنت أركب السيارة مع صديق، وبينما أدور في شوارع ضيقة بسبب العربات المصطفة على الجانبين محاطاً بالخوازيق وناطحات السحاب باحثا عن خرم إبرة لأركن السيارة، دون أن أنجح في ذلك، قلت لصديقي :" أهو ده كله بسبب المحجوب". لم أتمكن أبداً من تكوين رأي قاطع في مسألة العقارات ذات الارتفاعات المخالفة، كنت أكره منظر الخوازيق القبيحة التي لا يدخلها الشمس ، والزحام الذي تسببه، الضغط على البنية التحتية، وسوء مواصفات بنائها...الخ ، لكنني كنت أدرك أنه لا غنى عنها في ظل ظروف السكن الحالية. قال لي صديقي أن لا أقسو على المحجوب مشبهاً إياه بجنرال ينسحب من ساحة معركة محاولاً الحفاظ على أكبر قدر من جنوده، فلا يجب سؤاله في حالته تلك عن خسائره. قال أنه أدار المحافظة في بلد مأزومة بالإمكانيات المتوافرة لديه، وأنه تمتع ببصيرة جعلته يفضل مصالح الناس على تطبيق القانون عندما كان تطبيق القانون سيؤدي لضرر أكبر من النفع، وأنه أدرك أنه في بعض الأحيان تكون النتائج المترتبة على إغلاق الأبواب في وجه الناس - إزالة سوق عشوائي كامل مثلا- ذات تأثير سلبي على الأمن والقانون أكثر من تطبيق نص قانون للحفاظ على سيولة المرور أو المنظر الحضاري مثلا...

بالنسبة للمستقبل ، ستتحدد أشياء كثيرة بالنسبة للمحافظة بتحدد الطريقة التي سيتم بها تعمير المناطق الزراعية - حول الطريق الدولي- وتلك الصحراوية - بامتداد محور التعمير، وقرب بحيرة مريوط- والتي يتجه إليها العمران حثيثا. لا أحد يعلم يقينا إذا ما كانت ستنشأ هناك مجمعات مسورة تحوي فيلات يهرب إليها صفوة السكان تباعا ، كما الحال في القاهرة، أو ستترك للعشوائية وأن يبني كل فرد ما يريحه على أرضه، أو سينشأ نوع من الإسكان الشعبي على غرار مشروع ابنِ بيتك للشباب، أو سيتم إنشاء مبانٍ متوسطة الارتفاع مع قدر لا بأس به من التخطيط.

عموما وكما كنت سأنهي رسالتي لعمرو الشوبكي، فبالنسبة لمسألة المحافظين، كما لغيرها من المسائل، نحن في انتظار أن يكون للناس رأي في إدارة حياتهم ومدينتهم ، ورأي في التفكير في مستقبلهم. نحن في انتظار الديموقراطية.

الأحد، يناير ٠٦، ٢٠٠٨

عن أفلام العيد

ملاحظات متفرقة عن أفلام العيد، أو بعض ما دار في عقلي بعد مشاهدتها:

خارج على القانون:

كان الفيلم محبطا للأسف. كان الإخراج والتمثيل ( حتى تمثيل حسن حسني!) والموسيقى جيدين جدا، لكن المشكلة كانت في الحدوتة: فيلم إثارة غير مثير، مفاجآته غير مفاجئة. تفشل القصة في جذب انتباهك أو مفاجأتك بشيئ غير مستهلك أو غير ممل، حتى مناقشة حرية الإنسان بين التسيير والتخيير جاءت مباشرة للغاية. يتركك الفيلم لتقول: " وبعدين يعني؟ هوا بس كده؟". بعد نجاح الثلاثي ( بلال فضل، أحمد جلال، كريم عبد العزيز) في أبو علي وواحد من الناس، قدموا فيلما كوميديا غير كوميدي (في محطة مصر) ، وفيلم إثارة غير مثير ( خارج على القانون)، والمشكلة كانت في الحالتين في القصة.

أجمل إفيه في الفيلم عندما قال كريم عبد العزيز: "البلد دي فيها ابن الدكنور بيطلع دكتور، وابن الضابط بيطلع ضابط، وابن تاجر المخدرات بيطلع تاجر المخدرات"، ليكمل الجملة متفرج يجلس أمامي : "وابن رئيس الجمهورية بيطلع رئيس جمهورية" وتنفجر القاعة في الضحك.

الجزيرة:

لن أضيف جديدا بحديثي عنه. فالفيلم نجح نجاحا مبهرا مستحقا كأفضل أفلام العيد. ساعة ونصف من المتعة.

الماجيك:

كنت أتوقع أن أشاهد نسخة أخرى من أوقات فراغ، لكن لم يكن هناك تشابه ينهما سوى في فريق العمل، وفي الكم المرتفع للمشاهد المثيرة، ربما لاجتذاب الجمهور الشاب الذي أحب الفيلم الاول.
هو فيلم قاس، يقدم صورة لمجموعة من الشباب الفقير المحبط، الذي يرغب بقوة في أن يكون جزءً من العالم البراق الذي يراه أمامه: أن يلبس أفخم الثياب، أن يمسك بأحدث الموبايلات، أن يركب أحدث السيارات..الخ. يعذبهم أنهم مستبعدون من ذلك العالم الذي يحلمون به، والذي يعرفون كل تفاصيله جيدا دون أن يتمكنوا من الولوج له. لن تتحقق أحلام الشباب بضربة حظ كما في أفلام قديمة، أو بالكفاح كأفلام لاحقة، بل سيقررون أن يحصلوا الآن وهنا على كل هذه النعم الاستهلاكية. يكونون عصلبة ويسرقون وينصبون للحصول على ما يريدون. بينما لا يكون أمام الفتيات في الفيلم إلا بيع أجسادهن.

في الفيلم مشهد مؤلم للغاية لقسوة الشرطة، فبعد أن يوقف الأبطال كمين شرطة، يجلس ضابط مستمتعا بينما يخرج من اكتشف أنه أفقرهم ليقف وحيدا، وفي سادية يطلب من أصدقائه الباقين أن يضربوه على قفاه إذا أرادوا أن يخلي سبيلهم. ذكرني بالمرات العديدة التي كنت أركب فيها ميكروباصا للسفر بين المحافظات، وعند مدخل المحافظة يطل امين شرطة في ملابس مدنية -أو مخبر، لا أعرف حقيقة- على الركاب، ويمسحهم بعينيه باحثا بعينين خبيرتين عمن يبدو أفقر فيسأله للتأكد :" ساكن فين؟" و"بتشتغل ايه؟" ، وعند سماعه لحي فقير أو عشوائي أو مهنة حرفية يشير له بالنزول ويقوم بتفتيشه وتفتيش حقائبه وقد يبقيه عنده ليؤانسه قليلا، بينما الإجابة بمهنة "محترمة" أو سكن بمنطقة "محترمة" يجعلان المخبر يترك الراكب في سلام.


حين ميسرة:

المميز في الفيلم باختصار هو shock value. يعرض الفيلم للحياة في العشوائيات وسكانها الذين يحيون على هامش الحياة. يعرض كل التفاصيل ولا يدخر شيئا: فقر وقذارة وقسوة وجريمة. جنس يمارس على مقربة من أطفال نائمين وصرخات عروس تُفتَضُ ليسمعها كل الجيران. أم وابنتها يتبادلان الضرب والسباب، أم تتخلص من ابنهاالرضيع، ...الخ. حرص الفيلم على أن يصدم المشاهد لأكبر قدر ممكن، لم تبتعد الكاميرا لتترك شيئا للخيال، بل حرصت على أن تواصل بقسوة.

بالنسبة لي، لم أُصدَم كثيرا بما شاهدته. كنت قد قرأت أعمالا أدبية عن حياة العشوائيات ( لصوص متقاعدون لحمدي أبو جليل، بازل لحسين عبد العليم مثلا)، وشاركت مرات محدودة في جهود جمعية أهلية منذ سنوات في أحد العشوائيات، وكان عملي السابق في مستشفى في منطقة فقيرة محاطة بمناطق عشوائية حيث يأتيك بعض المرضى وهم تحت تأثير المخدرات وفي أحوال أخرى وهم يعانون من أعراض الانسحاب، وفي بعض الاحيان عندما ينحني مريض ما ستجد مطواة تبرز من ملابسه، وقد يسعدك الحظ بمشاهدة مشاجرة بين رجل وأمه يتبادلان فيها السباب بالدين والميتين إلى غير ذلك مما يناسب الظروف، وحيث يتعرض زميل لك للتثبيت وتسرق محفظته وموبايله، فيكون عليه التوجه إلى الكومندا - كبيرة حرامية المنطقة- والتي تقابله بترحاب وتعتذر له عن الإزعاج وتعيد له ممتلكاته. لم يجعلني أي من ذلك خبيرا بالعشوائيات، بل كون لدي معرفة سطحية بها ، وجعلني أتوقع ما قد يقدمه الفيلم.

المهم، أدى حرص الفيلم على تقديم صورة صادمة لحياة العشوائيات إلى اقترابه من نزع الانسانية عن سكانها. وكما كتبت دعاء عادل فشل الفيلم في توصيل رسالة تبعث على التعاطف مع أبطاله، ورسم التفاصيل بفجاجة، وإن كان يحسب له اختياره للموضوع.

وبغض النظر عن رسم صورة صادمة لحياة العشوائيات وأطفال الشوارع، كان مسار أحداث الفيلم وحبكته كوميديا بالنسبة لي ، حتى ظننت أن الاسم الذي ينطبق عليه أكثر هو "حين مسخرة". أراد الفيلم بصورة غير معقولة أن يعرض لكل الشرور والمصائب الممكنة في فيلم واحد ( أطفال الشوارع ، التحرش الجنسي، المخدرات، التعذيب، الشذوذ الجنسي، عقوق الأبناء، الفساد، الرشوة، استغلال النفوذ، الاستغلال الجنسي...الخ) لتكون النتيجة النهائية أن لا يقول شيئا عن أي منها. كما أن الخط الدرامي الخاص بسمية الخشاب كان كاريكاتوريا هو الآخر، فطوال الفيلم وهي تخرج من حادث اغتصاب إلى آخر، ومن تحرش جنسي إلى آخر، وتتوقف قليلا لتعمل في الدعارة..الخ. أما المجموعة الإرهابية العبيطة التي تعجز عن اقناعك تماما بأنها مجموعة إرهابية -وإن كانت متميزة جدا لتستخدم ويندوز اكس بي في التسعينات- ، والنهاية البائسة للفيلم فجاءا ليكملا صفة المسخرة التي تذكر برائعة خالد يوسف " خيانة مشروعة" - ولكن حتى لا نظلم حين ميسرة، فهو أفضل من خيانة مشروعة- وحرم هذا الفيلم من صفة الرائعة غياب الممثلين العظام ابراهيم عيسى وخالد يوسف والمغني الذي لا أذكر اسمه الذي يغني أغاني نضالية.