الجمعة، سبتمبر ٢٦، ٢٠٠٨

نص (نوعاً ما)

في مواجهة سؤال عدائي عن سبب اختياره لها بالذات
هز كتفيه وقال ما اعتبره إجابة واضحة: لأنها هي!

قوبل رده بالاستغراب والدهشة
-ممتزجين بالسخرية-
فاضطر للإيضاح
باذلاً مجهوداً ضخمًا
- ومستخدماً يديه كوسيلة شرح مساعدة-
لأنها
-قال-
هي!

لأنها عندما تحضر تنصرف فجأة كل الشياطين والعفاريت وأغلب كائنات عالم الهو السفلي -والأنا العليا أحياناً!-
ويحل الصمت على العالم.

ويحس بأنه يمكنه أن ينام بعينين مغمضتين، لأنها حتماً ستسهر لتحرسه.


ولأنها عندما حضرت
عاد- بعد طول غياب-
المذاق للطعام
والفتنة للعطور
والحنين للأغاني
والبهجة لعيون الاطفال
والغرور للقطط.

عادت الألوان للعالم، وأصبحت الأماكن أماكن.
وأمام العيون المغمضة ظهرت -أخيراً- الأحلام.
ولم تعد الدنيا أرضاً معادية.


توقف للحظة - ليرى وقع كلامه عليهم-
ثم أردف:

لأنه يحس أنها شريكته في ...
صمت باحثاً عن التعبير المناسب.
استبعد ألعاباً زوجية كالتنس الأرضي وتنس الطاولة
- وهو يتخيل نفسه يلهث بلياقة منعدمة-
وكاد أن يقول شريكة في جريمة قتل!
تقارب الرأسين، تبادل التفاصيل الصغيرة، السر الذي لا يعلمه أحد، ومصير مشترك.
لكن تحفزهم ، جعله يقول ببساطة:
شريكته في رحلة اسمها الحياة.

ثم قال ببطء:
ولأنني الآن عندما أفكر في الموت
-ولأول مرة!-
أصبح عندي سبب للحياة، أفاوض به رسل الميلانكوليا المعتادين.

باخت حماسته ، ولم يحب كل ذلك البوح بدخيلته
فأنهى كلامه بغمغمة - حاول أن يخفي الخجل بها-
قال أنه... اختصاراً يعني... يحبها...
وبطبعه المعهود، أعقب ذلك الإعلان بقوله.... نوعاً ما

السبت، سبتمبر ٢٠، ٢٠٠٨

تواصل

عندما عاد أخيرًا لذلك البيت ، اكتشف أن الهاتف مفصول من القابس، وأن الصوت لم يكن يتردد في أي أرجاء، وأنه كان في الواقع يتواصل مع جهاز الكتروني ما في سنترال...

الجمعة، أغسطس ٠٨، ٢٠٠٨

حنين


يمسك بالموبايل، ويطلب رقم البيت البعيد. يستمع إلى الجرس الرتيب. يغمض عينيه ويتخيل الهاتف يرن في البيت المظلم المهجور. يتخيل الصوت ينتشر في أرجاء البيت التي حفظها وأحبها. يرى ويسمع ويشم للحظات. يغلق الموبايل ويواصل العمل.

الجمعة، يوليو ٠٤، ٢٠٠٨

عبد الوهاب المسيري

ينهي عبد الوهاب المسيري كتابه "رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار" بقصة فنان مدينة كورو التي يهديها لجمال حمدان و" لكل فنان أو مفكر يتفاني في عمله ويُستوعب فيه حتى ينسى تمامًا الزمان والمكان والطبيعة/المادة، ليبدع عملاً فنياً جميلاً. خامته مستقاة من الطبيعة ، ولكنه في تناسقه وتركيبيته وجماله يقف شاهدًا على قوة النفس البشرية ومقدرتها على التجاوز، والقصة من كتاب ديفيد ثورو وولدن"، ولا يمكنني الآن إلا أن أهدي نفس القصة إليه:


كان هناك فنان يعيش في مدينة كورو ، دائب المحاولة للوصول إلى الكمال. وذات مرة تراءى له ان يصنع عصا. وقد توصل هذا الفنان إلى أن الزمان عنصر مكون للعمل الفني الذي لم يصل بعد إلى الكمال ، أما العمل الكامل فلا يدخله الزمان أبداً.فقال لنفسه: سيكون عملي كاملاً من جميع النواحي، حتى لو استلزم الأمر ألا أفعل شيئًا آخر في حياتي.

فذهب في التو إلى غابة باحثاً عن قطعة من الخشب ، لأن عمله الفني لا يمكن أن يصنع من مادة غير ملائمة. وبينما كان يبحث عن قطعة من الخشب ، ويستبعد العصاة تلو الأخرى، بدأ أصدقاؤه تدريجيًا فيا لتخلي عنه ، إذ نال منهم الهَرَم وقضَوا. أما هو، فلم يتقدم به العمر لحظة واحدة، فوفاؤه لغايته وإصراره وتقواه السامية أضفت عليه ، دون علمه، شبابًا أزليًا. ولأنه لم يهادن الزمن ، ابتعد الزمان عن طريقه ، ولم يسعه إلا أن يُطلق الزفرات عن بعد، لأنه لم يمكنه التغلب عليه. وقبل أن يجد الفنان العصا المناسبة من جميع النواحي ، أضحت مدينة كورو أطلالاً عتيقة، فجلس هو على أحد أكوامها لينزع لحاء العصا. وقبل أن يعطيها الشكل المناسب ، كانت أسرة كاندهار الحاكمة قد بلغت نهايتها ، فكتب اسم آخر أعضائها على الرمل بطرف العصا، ثم استأنف عمله بعد ذلك. ومع انتهائه من تنعيم العصا وصقلها لم يعد النجم كالبًا في الدب القطبي. وقبل أن يضع الحلقة المعدنية ( في طرف العصا لوقايتها) ، وقبل أن يُزَيّن رأسها بالاحجار الثمينة كانت آلاف السنين قد مرت. وكان براهما قد استيقظ وخلد إلى النوم عدة مرات.

وخينما وضع الفنان اللمسة الأخيرة على العصا، اعترته الدهشة حين تمددت العصا بغتة أمام ناظريه لتصبح أجمل المخلوقات طُرًا. لقد صنع نسقًا جديدًا بصنعه هذا العصا ، عالمًا نِسَبُه كاملة وجميلة، وقد زالت في أثناء صنعه مدن وأسَر قديمة، ولكن حلت محلها مدن وأسر أكثر جلالاً. وقد رأى الفنان الآن وقد تكومت عند قدميه أكوام النجارة التي سقطت لتوها راى أن مرور الوقت في السابق بالنسبة له ولعمله كان مجرد وهم، وأنه لم يمر من الوقت إلا القليل.

"كانت مادة عمله نقية صافية، وكان فنه نقيًا صافيًا ، فكيف كان يمكن للنتيجة ألا تكون رائعة؟"

رحم الله المسيري رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

الجمعة، يونيو ٢٠، ٢٠٠٨

أصوات

كانت الطفلة تجلس في هدوء. في التاسعة من عمرها، عيناها بنيتان ذكيتان، شعرها أسود معقود بعناية في جديلة ويلمع من أثر زيت شعر ، ترتدي فستاناً بناتياً وردي اللون، وتحمل حقيبة صغيرة بفخر، وفستانها يكشف عن جورب طفولي. كل ما فيها ينبئ عن أم تعتني بها جيدًا. لم تنطق بكلمة واحدة. اكتفت بوضع يدها ، وحقيبتها، على حجرها، وأرجحة ساقيها اللتان لا تصلان إلى الأرض ، كما يؤرجح والدها الجالس بجانبها ساقيه. كان الرجل ذو الوجه المتبلد يحكي حكاية طويلة عن رجال يراقبونه ومخططات لإيذائه، كاميرات مراقبة في منزله، وأجهزة تتبع مزروعة في جسده لا تكف عن التحكم به ، و إصدار الأصوات التي تملأ رأسه، وتمنعه من النوم. توقف للحظة ثم قال أنه يسمع الأصوات في أذنيه في هذه اللحظة بالذات. قربت الطفلة رأسها من رأس والدها ، ووضعت أذنها بجوار أذنه، وهي تضم شفتيها وترفع حواجبها، لتركز وتتمكن من الاستماع بصورة أفضل.

السبت، مايو ٣١، ٢٠٠٨

الخميس، مايو ٠١، ٢٠٠٨

تلك النظرة

على المحور، وفي المنطقة التي ينحصر فيها الاتجاهان في طريق واحد، كانت هناك عربة متوقفة. خلف العربة، وقف شاب لا يتجاوز عمره الخامسة عشر يشير بيده للعربات لتهدئ من سرعتها ولتتجاوز العربة. بمجرد تجاوزك العربة تلمح رجلاً في منتصف العمر جالساً على الأرض منكمشاً بجسده لأقصى حد ليبتعد عن الطريق الضيق ، وهو يعمل بسرعة على فك عجلة العربة. أمام العربة وقفت سيدة تنظر للعربات التي تعبر على بعد سنتيمترات من الرجل. على وجهها ظهر ألم وقلق، ومدت يدها كأنما لتبعد العربات عنه، ثم نظرت له. لمحتُ نظرتها لثانية، قبل أن أتجاوزهم. حنان؟ لهفة؟ خوف؟

قبلها بأيام كانوا يتحدثون عن كتاب رجلٍ في وجوده. وعندما بدؤوا في كيل المديح له، ابتسم في خجل وتمتم بأنه لا يستحق ما يقال. بجواره كانت تجلس زوجته، بمجرد أن بدؤوا في كيل المديح له، أشرق وجهها واتسعت ابتسامتها، رفعت رأسها ونظرت له لثانية، قبل أن تنظر للأرض من جديد. فخر؟ تقدير ؟ ثقة؟

في العمل، وسط زحام من المتكلمين والغادين والرائحين ، وَقَفَت زميلةٌ تنظر بثبات إلى نقطة ما خلف ظهري. أدرت رأسي وأنا أتوقع أن أراه - خطيبها- هناك. بالفعل، كان يقف هناك، يبتسم ويبادلها النظر عبر المكان المزدحم بكل هؤلاء الأشخاص. شيئ ما في نظرتها جعلني متأكداً من وجوده. اطمئنان؟ سعادة؟ تفاهم؟

كانوا يجلسون يستمعون إليها، وكانت تتحدث بحماس وتدفق، عندما دخل المكان وجلس. كان دخوله مفاجئاً، فتاه منها الكلام. حاولت جاهدة أن تكمل ما تقوله، ونجحت في ذلك، لكنها نظرت له نظرة قصيرة - بعينين تلمعان - قبل أن تواصل. فرح؟ شكر؟ عرفان؟

مهما كانت المعاني المختلفة التي تبدو من تلك النظرات التي ألمحها لثوانِ معدودة، إلا أنها ، كلها ، لا يمكن إلا أن أصفها ب "تلك النظرة".

الأحد، أبريل ٢٧، ٢٠٠٨

ثورة 2053 - البداية


رواية - محمود عثمان - الطبعة الاولى ديسمبر 2007 - ب.ن.




تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب ( العام 2026) على صورة مذكرات لبطلها المهندس الشاب محمد نصار. تبدو الرواية للوهلة الأولى Dystopia (يوتوبيا معكوسة) مسقبلية تقليدية تتخيل المجتمع المصري بمفرداته الحالية في صورة ممسوخة كابوسية تضخمت فيها العيوب، مع مفردات تقدم تكنولوجي مذهل، لكن الرواية تحمل أكثر من ذلك بكثير، فضلاً عن أن بها من اللحظة الراهنة أكثر بكثير مما بها من المستقبل.




نتعرف على حياة البطل محمد نصار. هو مهندس شاب ناجح ومجتهد صاحب شركة تصمم أنظمة الكترونية متقدمة، ينتمي للطبقة الوسطى العليا، في مجتمع لم يعد به سوى طبقة عليا وأغلبية تحيا في ظروف غير آدمية فيما تصارع الطبقة الوسطى العليا من أجل البقاء واللحاق بالطبقة العليا، وهو حلم المهندس محمد نصار مدمن العمل الذي يصارع لتصبح شركته شركة كبرى. يحيا حياة باردة وحيدة ليس بها سوى العمل، و تنظم حياته الآلات. لا وقت لديه ، ولا اهتمام، بأن يرتبط أو يتزوج، ولا وقت لديه ليرى والديه وشقيقته رغم حبه لهم. معزولاً خلف زجاج سيارته يطالع الملايين المكدسين في وسائل النقل العام المنهارة غير الآدمية والهائمين في شوارع القاهرة الملوثة التي لم يعد صحياً المشي فيها دون فلتر منقٍ للهواء، يضغط على الأوتوبيلوت لتنطلق العربة المتصلة بالأقمار الصناعية إلى هدفها في قاهرة أكثر قبحاً وزحاماً وتلوثاً وفقراً وعزلاً طبقياً مما يمكن تخيله.


يحيا نصار في فقاعة معزولة عن القبح الخارجي، يحارب ليظل قادراً على تحمل ضغوط العمل الدؤوب من أجل الترقي وضغوط الحياة في تلك المدينة. لكن عالمه يتغير ، وحياته تتغير، ومفاهيمه تتغير شيئاً فشيئاً عندما يتعرف صدفة على غريب - اسم على مسمى بالنسبة له- ، وهو مصور فوتوغرافي غامض لا يتعامل مع منجزات العصر التكنولوجية ويبدو غير مبالٍ بالنجاح المادي بالصورة التي يفهمهما نصار. على مدار الرواية تتعقد الأمور لنصار: فرغم اصراره على النجاح المادي، إلا أنه لتربية والديه الصارمة أخلاقياً له، يرفض الفساد في العمل. يُواجه بعرض من النوع الذي لا يمكن رفضه، إما أن يقبله ويحقق القفزة التي يطمح لها، وإما أن يرفض فتنهار شركته. مشكلته كانت أن العرض كان مريباً، مما يجعله في مواجهة أزمة أخلاقية حادة. يزيد غريب من الضغوط عليه: بأسلوب حياته يهز قناعاته عن الحياة المثلى، ينتقد الحياة المخملية المعزولة التي تحياها الطبقة العليا التي يحلم نصار باللحاق بها، يعرفه على العالم خارج فقاعته، يجعله يرى ويسمع للمرة الأولى من كان يطالعهم من خلف زجاج سيارته. عندما يطالع نصار المرآة يطالعه وجه حزين متعب.


يتسارع إيقاع الرواية وتزداد الإثارة، ليصبح من الصعب تركها دون إتمامها في الجزء الأخير. يتعقد الخطان المتوازيان: حياة نصار القديمة وصعوبات استمراها بذات الصورة، والعالم الجديد الذي يكتشفه ويتأثر به. بصورة مؤلمة يصل نصار إلى لحظة الإنارة: الإيمان الحقيقي عندما يخرج من دائرة ذاته، عندما يتخلى عن الفردانية، ويتخفف من وهم المادة، الترقي ، الغنى، الإيمان المطلق بالعقل والتقنية والمنطق البارد.


يعيب الرواية طفوليةٌ في وصف اختراعات المستقبل - بصورة قد تذكر بملف المستقبل- ، وأن الدقة النحوية والجزالة الاسلوبية ليستا أفضل مميزات الرواية ، وبعض اللجوء إلى الكليشيهات، وطول الحوارات بصورة قد تبعث على الملل، إلا أن محتوى الحوارات الهام يعوض عن ذلك.


في حفل توقيع الرواية بالكتب خان، تحدث المؤلف عن ردود الأفعال التي أثارتها الرواية، وعمن راسلوه قائلين له أنهم يفكرون بنفس الطريقة، وأنهم يشعرون بالقلق ذاته في ذات اللحظة الراهنة الفارقة. مست الرواية وتراً لدى من شعروا بأن حياتهم مقاربة لحياة البطل وينتمون لنفس طبقته الوسطى العليا. هم مهنيون أو رجال أعمال ناجحون يحيون حياة لا بأس بها أبداً، لكنهم يشعرون بخوف كبير من الغد. يحسون أن الحياة التي يحيونها لن تستمر بذات الطريقة، والمستقبل لا يحمل سوى احتمالات مرعبة. "الحل الفردي" الذي اختاروه لم يعد ممكناً، فالفساد يجبرك على أن تخضع له ليشوه حلك الفردي مهما حاولت الانعزال، فضلاً عن أن المستقبل يحمل نذر زلزال لا يترك أحداً. تحدث المؤلف عن هجرة كثيرين يعرفهم رغم ظروف حياتهم الرغدة، لكنهم هاجروا لأنهم يشعرون بأن الحياة القديمة لن تستمر، وأن البلد تقف على شفا حفرة. المعارضة الحالية غير مقنعة، الانعزال والحلول الفردية لم تعد نافعة في مركب يغرق، الهجرة ليست أفضل الحلول. يحاول عثمان أن يقدم تصوره لما يمكن أن يكون عليه الحل في روايته التي يهديها إلى: " كل مواطن يؤمن بأن التغيير لا يزال ممكناً".



تعرض الرواية لحياة ومخاوف وتطلعات الطبقة الوسطى العليا حالياً- وإن اختار المؤلف المستقبل ساحة لروايته- لكنها ليست رواية طبقية بالمعنى السلبي. في حوارات مطولة يهاجم المؤلف ويحطم الحجج والأساطير والمحفوظات المسكنة والمريحة للأعصاب والضمائر المنتشرة في طبقة البطل - وطبقات أخرى-. ينتقد تأليه العمل والنجاح المادي، استغلال العمالة والحديث عن فتح البيوت، تحليل الرشوة...الخ، يحلل ويشرح ويعلن رفضه. يدافع بقوة عن الديموقراطية وعن حق المصريين في حياة كريمة ، بكرامة، مهاجماً الاحتجاجات النيوليبرالية والعنصرية الثقافية.



عندما بدأ المؤلف في الحديث عن تجربته مع الكتابة اتضح لي البعد الشخصي القوي في الرواية. حكى المؤلف عن إدمان للقراءة منذ الطفولة، عن غرام بالأدب، وحلم بالكتابة، وإن كان لا يعرف ماذا يكتب. حكى عن عمله مهندساً وعن المشاريع المختلفة التي عمل بها، وعن حرصه المستمر على أن يحاول أن يكون إلى جانب توجه عمله للربح، جانب لمساعدة الفقراء أو للصالح العام. حكى عن أنه في أغلب الأوقات فشل في تحقيق تلك المعادلة، وعن أنه باستمرار عمله بالهندسة اكتشف أن هناك مشكلة ما أساسية تمنع وتُفشِل باستمرار تلك المحاولات الصغيرة. حكى عن انشغاله بالعمل عن الكتابة ، وأنه كتب نسخة مصغرة من هذه الرواية في أوائل التسعينات ليكتشف أن الكثير مما توقع حدوثه بسوداوية قد تحقق بالفعل مما دفعه إلى التساؤل عن جدوى الكتابة. في فترة انتقالية بين وظيفتين تحقق له أخيراً فائض من الوقت، فجلس وكتب قصصاً قصيرة، كانت إحداها تنويعاً على هذه الرواية، مما دفعه إلى العودة إلى الاوراق القديمة وكتابة النسخة الحالية من الرواية. من سماعي هذه التجربة أدركت أن الرواية جاءت حكياً موازياً لتجربته الحياتية ولقناعاته التي تكونت ، ولبحثه عن المعنى وعن الصواب، رسالة للناس، وفي الوقت ذاته هي ذاتها الإجابة عن سؤال لماذا أكتب، بحثاً وجودياً مهموماً بالأخلاقية.



عندما انتهيت من قراءة الرواية، شاهدت في اليوم ذاته فيلم جنينة الأسماك. جعلني العملان أدرك أنني لست وحيداً في شعوري بالخوف، وفي أن هناك شيئاً ما سينهار وسيأتي شيئ ما بشع فوق ما نتصور، ونحن لا نملك سوى انتظاره في عجز. يحاول محمود عثمان في الجزء الأول من روايته ذات الجزئين، أن يقول أن هناك شيئاً ما يمكن عمله، رغم كل هذا الخوف.

الجمعة، أبريل ٢٥، ٢٠٠٨

سؤال عن الكلابشات...




بعد نشر جريدة البديل صوراً لمصابين في أحداث المحلة قيدهم الأمن إلى أسرة المستشفيات، ثارت ضجة كبيرة، وقدمت نقابة الاطباء المصرية بلاغاً للنائب العام يتضمن معلومات عن الأضرار الصحية المصاحبة لمثل هذا التقييد والتي قد تؤدي للوفاة. واتهمت منظمات حقوقية وزارة الداخلية والصحة بمخالفة الدستور، وأمر النائب العام بالتحقيق في الواقعة.

كنت متعجباً جداً، لا من قسوة الأمن ووحشيته في تعامله مع مصابي المحلة بالذات، ولكن من تعجب الكل في التعامل مع هذا الخبر. أتذكر أنني في فترات التدريب الاكلينيكي أثناء دراستي بكلية الطب، حيث كنا نتدرب في عنابر المستشفى الجامعي (الميري)، شاهدت عدة مرات مرضىً مقيدين في أسرتهم. عندما سألت من هم أكبر مني، أفهموني أنهم مسجونون يعالجون في المستشفى. لذلك ترسخ في ذهني أنها معلومة يعرفها كل الأطباء. لم أر ذلك المنظر منذ تخرجي من الكلية، ربما لأنني لم أتعامل مع المستشفى الميري من ساعتها. لم أتعجب من تعامل الصحافة أو المنظمات الحقوقية مع الخبر، ولكن من تعامل النقابة معه. حيث بدا لي أنها تتعمد تلبيس القضية بعداً سياسياً عن عمد وحصره بأحداث المحلة ، أو أنها لا تعرف وهو ما أستبعده.

يختلف أسلوب الاحتجاج على ما حدث، إذا ما كان قد حدث حادثة معزولة لقسوة مفرطة من الشرطة في امتداد لتعامل قاس ٍ مع مدينة غاضبة، أو كان سياسة عامة لم تنل الاهتمام إلا عندما احتكت بالسياسة.

زيادة في التأكد (إذ ربما كانت الحالات التي شاهدتها منذ سنوات عندما كنت طالبا في الكلية حالات معزولة) أوجه سؤالاً إلى الزملاء من طلبة و خريجي كليات الطب المصرية: هل شاهدتم هذا الإجراء من قبل؟ وإن كنتم قد شاهدتموه ، فكم مرة؟ وهل كان الإجراء يتم في الظروف الاستثنائية فقط - متهمون سياسيون مثلا- أم لمتهمين جنائيين تقليديين؟

الصورة من مصطفى.

الأحد، أبريل ٢٠، ٢٠٠٨

صمت

كانا يجلسان عندما جاء الصمت. جلس هو، وجلست هي، وبينهما جلس. انكمش في مقعده مائلاً بجسده اقصى اليمين، بينما انكمشت في مقعدها مائلة بجسدها أقصى اليسار. ثَبَّت نظره إلى الامام، وثبتت نظرها إلى الامام. انشغل بالتفكير في أفضل توصيف للصمت الجالس بينهما. بتركيز كبير، استعرض أوصافاً كالسحابة السوداء التي تغطي القاهرة، ضباباً يملأ الأجواء، شبورة على الطريق الزراعي في السادسة صباحاً من يوم بارد، ثقلاً جاثماً على صدر مريض بفشل في القلب، بحراً مظلماً تغوص فيه. لم يصل لتوصيف مناسب، فهز رأسه في أسى. بطرف عينيه شاهدها تتطلع إليه في يأس . أدارت راسها وتطلعت إلى الأمام من جديد بعد أن بادلها الصمت النظرات. تمتم بكلمات غير مسموعة وغادر المكان وهو يهز رأسه فيما حاول أن يكون تحية.

أمسك بالهاتف ، وطلب رقمها، وانتظر حتى قالت له : مساء الخير. رد تحيتها. ثم دخل الصمت على الخط. عجزا عن الكلام. لدقائق ظلا صامتين ممسكين بالهاتف. حاجز؟ حائط؟ جدار؟ سد؟ فكر في الكلمة المناسبة، لكن أياً من التشبيهات لم يرضه. بعد دقائق طويلة من الصمت، تمتم: مع السلامة، ووضع السماعة.


محاطين بأشخاص كثيرين. يضحك ويتكلم ، لكنه يشعر أن شيئاً ما خطأ. يتطلع حوله باحثاً عن الصمت. لا يجده. يغمض عينيه ويتطلع داخله ، ليكتشف أن الصمت قد سكن داخله. يظل صامتا مهما تكلم. يطالعه صديق ويسأله: مالك؟ يتعجب من أن الصمت يكشف نفسه لعيون الآخرين. يهز يده في حركة بلا معنى، ويتمتم بإجابة بلا معنى.

لاحقاً ، سيتكلمان كثيرا، لكن كلا منهما كان يعرف أن الصمت لم يغادر. سيفكر أن الصمت ضيف قد جاء ليبقى. سيستريح أخيرا لهذا التوصيف، وسيتبادل هز الرؤوس مع الضيف الذي أصبح صاحب بيت.

الأربعاء، فبراير ٢٠، ٢٠٠٨

سعد عبود: يرقص كالفراشة ويلدغ كالنحلة.

النائب سعد عبود

في الأخبار قرأت عن حرمان النائب سعد عبود من حضور الجلسات حتي نهاية الدورة البرلمانية الحالية.

لا أعرف الكثير عن النائب سعد عبود. أعرف أنه أحد نائبين في مجلس الشعب عن حزب الكرامة - تحت التأسيس،وسيظل تحت التأسيس إلى الأبد غالباً- وأنه نائب عن دائرة ببا - بني سويف ، ولا شيئ آخر تقريباً.

لكن اسمه علق بذهني منذ ما يقارب العامين... لم أكن أكتب وقتها هنا، ولذلك احتفظت بمفكرة أسجل فيها أفكاري. وهذا ما كتبته بها وقتها:

(( قرأت خبرا في المصري اليوم عن مناقشة الرئيس مبارك لتطوير المنظومة الصحية . لفت نظري في ذات الخبر تبرع مبارك بثمن أربع أجهزة رنين مغناطيسي.

وقال عواد: إن الرئيس مبارك قرر تزويد أربع محافظات بأجهزة «أشعة رنين مغناطيسي» من ماله الخاص في مستشفيات قنا والوادي الجديد وأسوان والعياط وذلك بشكل عاجل عندما ذكر وزير الصحة أن إمكانيات الوزارة توفير وحدة واحدة من هذه الأجهزة.. فقال له الرئيس مبارك: إنه سيتبرع بها من ماله الخاص.

فكرت أن ثمن هذه الأجهزة ملايين وتساؤلت عن من أين له هذا ليمنح الشعب هذا البقشيش السخي؟

تذكرت الدكروري محامي الرئيس أيام الحملة الرئاسية 2005 وإقرار الذمة المالية للرئيس الذي هو من شروط الترشيح ، والذي لم يره أحد، ثم سرحت في تذكر ألعاب نور لتقديم أوراقه أولا للحصول على رمز الهلال، تعيين الدكروري كواحد من عشر أعضاء معينين في مجلس شعب 2005، نور في السجن، عواد المتحدث باسم الرئاسة وتصريحاته عن الاستفتاء. ثم عدت للتفكير:" طب ايه التفسير؟ هيفسروا حاجة زي دي ازاي؟ ايه"التفسير المزيف" اللي يفسروا بيه انه بيطلع من جيبه ملايين ويرميها للشعب وهوا افتراضا موظف حكومي؟"

بعد أسبوعين تقريباً:
كنت قد نسيت الموضوع تقريباً ، لأجد خبرا عن:
"أكد الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب أنه لا يجوز توجيه بيان عاجل لرئيس الجمهورية، لأن ذلك مخالف للدستور، والرئيس غير مسؤول أمام مجلس الشعب، وجاءت تأكيدات سرور رداً علي البيان العاجل الذي تقدم به سعد عبود النائب البرلماني عن حزب الكرامة «تحت التأسيس» حول الذمة المالية للرئيس مبارك، مستنداً إلي ما نشر في بعض الصحف حول تبرع الرئيس لبعض المستشفيات، وأوضح سرور أن الرئيس مبارك يوجه ولا يتبرع من ماله الخاص، وقد ألقي توجيهاته بتدبير أجهزة أشعة مقطعية لأربعة مستشفيات، مؤكدا أن هناك مبالغة حدثت من وسائل الإعلام وأضاف: أردت تحقيق الشفافية لأسجل سابقة برلمانية يحمد عليها رئيس الجمهورية، وأكد عبود ضرورة أن تتحري وسائل الإعلام الدقة، وأنه لم يتوجه بالبيان بصفة شخصه، وتدخل سرور موضحا أن البيان العاجل لم يقدم بالطريق القانوني، وإنما فوجئ به علي المنصة، وأكد أن تقديمه يتم عبر تسليمه لمكتب رئيس المجلس وإبلاغ الوزير المختص لتقديم الرد، وعقب عبود قائلا: إنه تمت مناقشة الذمة المالية للرئيس جمال عبدالناصر في هذا المجلس، وتمت تبرئة ذمته المالية، وأضاف: رئيس الجمهورية يعنينا جميعا لأنه رئيسنا كلنا"



فكرت أن الخبر لفت نظر شخص ما كما لفت نظري، وفكرت:"ملعوبة يا عبود!". ليس لدي أي أوهام عن تأثير هذا. وأدرك أنهم "كفوا عالخبر ماجور" وأن العديد من هذه الملاعبات الذكية التي تكشف وتفضح قد قام بها نواب مصريون شجعان معارضون من الوفد والتجمع والعمل والأحرار والإخوان المسلمين على مدى تاريخ المجلس منذ السبعينات. ولكن هذه الأشياء لا تزال قادرة على بعث السعادة في قلبي، وخاصة الصورة المعبرة:
حمدين مبتسما في ثقة وتفهم ، ويتقرب إليه في قلق زكريا عزمي.

وفي نفس العدد نشر الخبر القديم ولكن بصيغة مناسبة أكثر : تدبير الأجهزة بتوجيه من الرئيس.))

أما الآن، فبدأت الأزمة التي انتهت بتجميد عضويته، باستجواب من عبود وجهه إلى رئيس مجلس الوزراء متهماً وزارة الداخلية المشرفة على بعثة الحج الرسمية باختلاس 115 مليون جنيه مصري من أموال الحجاج المصريين. قال في استجوابه أن" ضباط وزارة الداخلية المشرفين على الرحلة تربحوا من أموال الحجيج من وراء إشرافهم على حجاج القرعة المصريين في موسم الحج الماضي، قائلا إنهم أنفقوا أقل مما حصلوا عليه منهم بواقع 115 مليون جنيه، وأشار إلى عملية الإهمال الشديدة التي تعرض لها الحجاج من حيث الإقامة في أماكن بعيدة عن المشاعر، وتكبدهم أموالا للحصول على خدمات كان يتعين على بعثة الحج توفيرها لهم."
هبت العاصفة بعدها. رد مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والمجالس النيابية علي الاستجواب، ووصف اتهامات عبود لبعثة الحج بأنه كلام مرسل، وحذره من أن عليه أن يتحمل نتائجه. و تقدم بعدها حوالي 160 نائبًا من الحزب الوطني بطلب بمعاقبة النائب سعد عبود وحرمانه من حضور جلسات مجلس الشعب المتبقية من الدورة الحالية 2007/2008، طبقا للمادة 377 من اللائحة. واعتبر نواب الحزب الوطني أن سعد عبود خالف واجبات عضويته وحنث باليمين لأنه ـ حسب قولهم ـ وجه اتهامات كاذبة بجلسة 27 ديسمبر الماضي، حيث رمي ضباط وزارة الداخلية باتهامات ذكر فيها أنهم تربحوا وأخذوا رشوة وتواطأوا مع عدد من المسئولين في المملكة العربية السعودية، وحصلوا علي مبالغ مالية دون وجه حق، وقالوا إن ذلك لا يتفق مع السلوك البرلماني القويم، وحيث إن لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب طلبت منه مستندات علي اتهاماته ولم يقدمها، مما يؤكد إخلاله بواجبات عضويته، لذلك اقترح نواب الحزب الوطني طبقا للمادة 377 من اللائحة حرمان سعد عبود من حضور جلسات المجلس حتي نهاية دور الانعقاد الحالي في 2008.عم الغضب بعدها المجلس، ووقعت اشتباكات بالأيدي بين نائب من الحزب الوطني وآخر من الإخوان، وانسحب نواب الإخوان و١٠٦ نواب من جلسة مجلس الشعب، مرددين هتافات «باطل.. باطل»، فيما قدم نائب الوطني صابر عشماوي استقالته من الحزب الوطني احتجاجا علي ما جرى، و تدخل النواب لفض الاشتباك، وهدد سرور أي نائب يقترب من المنصة بإسقاط عضويته قائلاً:«اللي حيقرب مني جزاؤه سوف يكون إسقاط العضوية».
أعتقد أن هذا الغضب العارم مرده أن حج القرعة موضوع هام، فاختلاس أموال الحجاج سيراه معظم الناس ك"أكل مال النبي" ، فضلاً عن أن ملايين المصريين فعلاً سيهتمون بالموضوع، لأن قلة فقط من الأسر لم يسافر أحد افرادها أو معارفها أو يخطط أن يسافر أو يحلم أن يسافر إلى الحج، ويندر أن يجرب أحد حج القرعة المصري دون أن يرجع يحكايات فولكلورية طويلة عن البهدلة التي لقاها، والآن سيكون هناك من تشير بإصبعك نحوه لتفسير هذه البهدلة.
هذه التدوينة لتحية سعد عبود ، ولأنه ذكرني بالنائب عادل عيد رحمه الله. اقرؤوا له الفاتحة.
* اقرأ: حوار مع سعد عبود بعد تجميد عضويته، و فتحي سرور في تصريحات لاحقة.

السبت، فبراير ١٦، ٢٠٠٨

الاثنين، فبراير ٠٤، ٢٠٠٨

يوتوبيا

يوتوبيا - أحمد خالد توفيق - رواية - ميريت


لا أعتقد أن أحمد خالد توفيق في حاجة إلى تقديم ، فرواياته من إصدرارت روايات مصرية للجيب قرأها الملايين. كانت رواياته جزءً من ثقافة جيل كامل تكفي الإشارة إلى أحد مفرداتها ليتم التفاهم ( أتذكر ليلة طويلة على رصيف شارع عبد الخالق ثروت، في الثالثة فجراً كان الرصيف بارداً جداً وصلباً جداً ومرهقاً جداً، قلت ذلك لمن يجلس بجواري، فابتسم وقال لي أنها ساعة الذئب. ابتسمت له ، بينما تساءل ثالث تجاوز عمره الثلاثين عن معنى ذلك، فقلنا له أنها مصطلحات جيل أصغر). كانت رواياته هي أول مكان قرأت فيه أسماءً مثل كونديرا وكامو وصنع الله إبراهيم وماركيز...الخ. كنت مقتنعاً أنه قادر على أن يكتب أكثر ، وتعزز رأيي بقراءتي لمقالاته المتميزة المنشورة في الدستور أسبوعياً. لذلك كنت سعيداً بصدور أولى رواياته: يوتوبيا.





تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب، حيث ينعزل الأغنياء في مجتمع مسور في الساحل الشمالي اسمه يوتوبيا يحميه المارينز، بينما "الأغيار" يمورون خارجه. لا يهتم المؤلف بالإشارة إلى أسماء قد تشير إلى شخصيات ومجتمعات حالية، وتحمل أولى الصفحات اعتبار أي تشابه مماثل محض مصادفة غير مقصودة، على الرغم من أنه يؤكد إيمانه " يقيناً أن هذا المكان سيكون موجوداً عما قريب".



يقدم المؤلف صورة كابوسية للمستقبل: فسكان يوتوبيا انحطوا إلى ما يشبه الحيوانات الشهوانية. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ( باستثناء أخلاق رأسمالية بالحفاظ على الملكية الفردية لبعضهم). يحيون محاولين استخلاص كل لذة ممكنة من الحياة من الطعام والجنس والمخدرات، معانين من الملل الذي يتغلبون عليه بالتسلي باصطياد الأغيار.


أما الأغيار فيحيون في أطلال مدن مصر القديمة. كل شيئ انهار: لا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي. عالم بلا قانون ولا دولة، عصابات مخدرة بمخدرات رديئة تتصارع كالضباع للبقاء على قيد الحياة. سوقية وجنس ووحشية وجريمة. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ولا دين فكل هذا يعد ترفاً.

ذكرني هذا بآلة الزمن وثنائية الإيلوي الخانعين الضعفاء فوق الأرض، والمورلوك المتوحشين العاملين تحت الارض. لكن كلاً من الروايتين ابنة عصرها، فرواية ويلز تفكر في مستقبل البشرية في المستقبل البعيد متأثرة بأفكار النشوء والارتقاء والأفكار الاشتراكية ( كان ويلز اشتراكيا فابياً). بينما تفكر يوتوبيا في مستقبل مصر القريب. يمد المؤلف الخط إلى آخره وصولاً إلى القبح المطلق. نجد مظاهر نعرفها وقد توحشت وشملت كل شيئ. المفردات المصرية المألوفة لنا: (الشوارع الغارقة في الصرف الصحي، مجرمو المناطق العشوائية، مدمنو الكلة، الطعام الرديء المغشوش، انهيار الطبقة الوسطى، الشباب متعاطو المخدرات، المجتمعات المسورة - اقرأ عنها دراسة إيريك دينيس في كتاب القاهرة الكوزموبوليتانية- ، الأثرياء المحتكرون المتعاملون مع إسرائيل...الخ ) تتضخم بصورة كابوسية وتبتلع كل شيئ آخر. يتحول الكل - فقراء وأثرياء- إلى كتل من البروتين الحيواني الذي تحركه الغرائز في عالم بلا رحمة.

يروي المؤلف الرواية على لسان بطلين ، أحدهما من سكان يوتوبيا والآخر من الأغيار. تتعاقب فصول الكتاب ليكون كل منهما الراوي الشخص الأول في أحدها. وضع المؤلف كلاً منهما في مقابلة الآخر. كلاهما يقرأ في عالم لا يقرأ، ويعرف أكثر من المحيطين به، قبل أن يدفعهما للقاء بعضهما. بطل الأغيار هو ابن الطبقة الوسطى القديمة الذي لا زال يحتفظ بنقطة مضيئة وسط صدره رغم كل القبح الذي يحيا به. بطل يوتوبيا واقعي جداً ولا يزيده إدراك العالم إلا قسوة. حرص أيضاً على أن يضع كلاً منهما في مواقف متشابهة ليكشف عن تصرفاتهما المتباينة في حبكة متقنة ومثيرة يتيميز بها المؤلف.

الرواية كابوسية لكنها أيضاً قاسية جداً. يصيح بطل الأغيار:


"ثمة شخص جمع الأوغاد والخاملين والأفاقين وفاقدي الهمة من أرجاء الأرض في وطن قومي واحد هو مصر... لهذا لا تجد في ألمانيا وغداً... لهذا لا تجد في الأرجنتين أفاقاً... كلهم هنا يا صاحبي........هأنتم أولاء يا كلاب قد انحدر بكم الحال حتى صرتم تأكلون الكلاب !.. لقد أنذرتكم ألف مرة .. حكيت لكم نظريات مالتوس وجمال حمدان ونبوءات أورويل وهـ .ج. ويلز..لكنكم في كل مرة تنتشون بالحشيش والخمر الرخيصة وتنامون ... الآن أنا أتأرجح بين الحزن على حالكم الذي هو حالي، وبين الشماتة فيكم لأنكم الآن فقط تعرفون .. غضبتي عليكم كغضبة أنبياء العهد القديم على قومهم، فمنهم من راح يهلل ويغني عندما حاصر البابليون مدينته .. لقد شعر بأن اعتبارهقد تم استرداده أخيرًا حتى لو كانت هذه آخر نشوة له .. إنني ألعنكم يا بلهاء .. ألعنكم !"

بينما يقول بطل يوتوبيا:


"يا لقذارتك.. يالقذارتك.. ليس فقرك ذنبنا... ألا تفهمين بعد أنكم تدفعون ثمن حماقتكم وغبائكم وخنوعكم؟... عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية . ثم لم تعد هناك مصالح حكومية.. لم تعد هناك رواتب.. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكراً لهذا هويتم من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع... ما ذنبنا نحن؟.. عندما هب الجميع ثائرين في كل قطر في الأرض، هززتم أنتم رؤسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم.. تدينكم زائف تبررون به ضعفكم... أنتم أقل منا في كل شيئ ... هذه سنة الحياة... يجب أن تقبلوها... لم يعد أحد قادراً على تغيير أي شيئ"



تبقت لدي ملاحظتان عن الرواية أولاها هو تفكير في أن انهيار الدولة الحديثة ومؤسساتها قد يعني حرب الكل على الكل كما يرى هوبز ، وكما شاهدنا في العراق، لكنه ربما أيضاً يعني ظهور بنى تنظيمية أخرى للمجتمعات ، سواء كانت استعادة لبنى تقليدية مفككة أو بنى جديدة تماماً.

الثانية هي اقتباس طويل من حلقة من برنامج مع هيكل:

"شيمون بيريز العتيد رئيس دولة إسرائيل الحالي، وبيقول له إيه؟ بيقول له في صراع قادم في الشرق الأوسط، لأنه بقى في الشرق الأوسط، في العالم العربي وهو ملحوظ وهو لاحظه وهو ينزل بالطائرة فوق القاهرة، لاحظه جدا، لأنه لاحظ أنه في ملاعب غولف كثيرة قوي حوالين القاهرة ما يسمى بالمنتجعات الحديثة، ولاحظ في جبال من الزبالة جنب عشوائيات، وقال له شيمون بيريز بيقول أنه هو يتصور أن إسرائيل، أمل إسرائيل معلق بملاعب الغولف، التعامل مع أصحاب ملاعب الغولف وليس معلق بالزبالة، بمقالب الزبالة بالعشوائيات. وبيقول أنه إيه؟ بيقول حاجة غريبة قوي، بيقول أنه هنا، مع الأسف الشديد، أكره أقول، إن التدين هنا، مش حيجيب كلمة الإسلام، إن التدين هنا نحن لا نستطيع أن نتعامل معه، لكن ملاعب الغولف هنا فيها التكنولوجيا والتكنولوجيا أقدر على فهمنا، الناس العايشين فيه، والتعامل معنا. وأنا قلت، تدخلت وقلت، قلت للورد باتين وده كان كلامي وهو سمعه مني وكلهم سمعوه مني، قلت لهم في هناك في ناس كثير قوي خايفين على مستقبل الطبقة المتوسطة في العالم العربي بيسألوا أين هي، وأنا بأقول الطبقة المتوسطة موجودة وهي تنمو لكنها غيرت مواقعها، إحنا كنا نبص عليها زمان في مواقع الوظائف، وظائف الحكومة، والقضاء، والتدريس والمدرسين أساتذة الجامعة، وإلى آخره الطبقة المتوسطة، لكنها انتقلت، وشيمون بيريز له حق في جزء معين أنها انتقلت من مواقعها إلى مواقع جديدة، ممكن يكون في قربها مواقع غولف، وممكن تكون بتفهم التكنولوجيا، لكن حتى هذه الطبقة المتوسطة أكثر من سوف يدرك حجم المطلوب للأمن القومي العربي وأن تقف هي وتدافع عنه، أظن بمقدار ما تنمو في مصالحها، بمقدار ما تطمئن، بمقدار ما عندها أمن، بمقدار ما عندها ديمقراطية، بمقدار ما عندها مشاركة، أنا أظن أن الطبقة الوسطى العربية والموجودة قرب ملاعب الغوف والفاهمة للتكنولوجيا سوف تعرف صراع التحدي وصراع الحياة الذي يتمثل بالدرجة الأولى في أمن قومي عربي يعرف أهدافه ويعرف كيف يدير صراعاته ويعرف مصادر التهديد التي يمكن يواجهها"

ختاماً، هي - دون شك- رواية تستحق القراءة.

* ملحوظة هامشية: هناك بالفعل، مدينة مسورة في السادس من أكتوبر تحمل اسم يوتوبيا ....

الأحد، فبراير ٠٣، ٢٠٠٨

يوميات حرب لبنان

حالة الحصار - عبد الإله بلقزيز


فواز طرابلسي - عن أمل لا شفاء منه - يوميات حصار بيروت 1982 - رياض الريس للكتب والنشر


عبد الإله بلقزيز - حالة الحصار - شهادات عن الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006- دار الآداب

عن أمل لا شفاء منه - فواز طرابلسي أتيحت لي الفرصة مؤخراً أن أقرأ الكتابين سوياً. توقفت كثيراً لأتأمل التشابهات والاختلافات بين الحربين. ما بدا كقدر لا يتغير، النيران تنهال على المناطق ذاتها، والمهجرون يقصدون الملاجئ ذاتها، أسماء اللاعبين الدائمين، وأولئك الذين اختفوا، من غيروا مواقعهم، ومن أدى دورهم خلفاؤهم.

تشاؤما ويأسا في الكتاب الأول ، وفرحا وفخرا في الكتاب الثاني. وفي الحالتين الغضب.

أفضل يوميات قرأتها من لبنان هي يوميات مدونة " نوادر من جمهورية موز". اضغط هنا لتقرأ - من أسفل الصفحة إلى أعلاها- ما كتبته أثناء حرب العام 2006.

السبت، يناير ١٢، ٢٠٠٨

الإضراب العام لأطباء مصر سنة 1951

(( تعود بي الذاكرة لسنة 1951، عندما كنت نائباً بقسم الجراحة ، وكان الدكتور رشوان فهمي وقتها مدرساً لطب العيون بكلية طب الإسكندرية. الحياة السياسية مضطربة ومصر تموج بأفكار سياسية متضاربة ومتطاحنة ، شباب مصر يتطلع إلى حياة مثالية - فنحن غير قابلين للأوضاع السياسية والاجتماعية التي نعيش فيها.

ولم نكن ندري أن العدالة المطلقة لا توجد إلا في السماء ، وأن المدينة الفاضلة لا توجد على هذا الكوكب.... ويمكنني أن أردد الآن قول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

كانت مرتبات الاطباء ضئيلة والحكومة لا تستجيب، فليُضرِب الأطباء إذن، نعم، ولكن كيف يكون ذلك؟ نعم نُضرب عن العمل في العيادات الخارجية بالمستشفيات، ولكن لا بد أن يستمر العمل في الحالات العاجلة (حالات الاستقبال والحوادث) فلا يمكن أن يمتد الإضراب إليها.

بدأت الفكرة في منزل الأطباء النواب بطب الإسكندرية بين الزميل الدكتور علي نوفل وبيني... اقتنع الأطباء النواب والامتياز بالإضراب ولكن هذا لم يكن كافياً. وهنا ظهر الدكتور رشوان فهمي فأعطانا دفعة قوية وأقنع أعضاء هيئة التدريس فأيَّدوا الإضراب - وكوَّنَّا لجنة ، سافر كل عضو منَّا إلى عدد من المحافظات داعياً إلى الإضراب فأضرب جميع أطباء مصر. أتذكر أنني سافرت إلى محافظات القنال: السويس والإسماعيلية وبورسعيد.

دعونا إلى مؤتمر صحفي بالكلية - تكلم رشوان فهمي بشجاعة وطلاقة " إن المبالغ المخصصة لإصلاح حال الاطباء أقل مما يصرف على حفلات عيد ميلاد الملك."
لقد آن لنا أن نتكلم.
ثم دعاني إلى التكلم فقلت أن المبالغ اللازمة لنا أقل من الميزانية التي اعتمدتها الحكومة للإنفاق على سيارات ويخوت الخاصة الملكية...

وكان وزير الصحة عبد الجواد حسين، قد هدد الأطباء بأنه سيقدم للنيابة كل من يضر بحياة المرضى فبينت للصحافة أسلوب الإضراب الذي لا يرفض علاج الحالات العاجلة بل يصر على علاجها، وقدمت لهم قائمة بالعمليات التي أجريت بالمستشفى في اليوم السابق للمؤتمر.

ثم قلت: ونحن نوافق على ما صرح به وزير الصحة، لذلك أطلب تقديم الوزير للنيابة، لأنه المسؤول الأول عن الإضرار بحياة المرضى لعدم توفر العقاقير اللازمة للعلاج، كما هو مثبت في أوراق المرضى، وكنا نحن الأطباء المقيمين نتبع إدارياً وزير الصحة.

وفي اليوم التالي صدرت بعض الصحف وبها أخبار المؤتمر وفي الصفحة الاولى "طبيب يطلب تقديم وزير الصحة للنيابة - مدرس بكلية الطب يعارض إهدار مال الدولة على الحفلات الملكية"

كانت الحكومة التي تحكم مصر هي حكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس، انتظرنا أن يقبض علينا ، فلم يقبض علينا أحد ولم يستدعنا أحد -قمة الديموقراطية- قال لي الدكتور رشوان: أعتقد أننا أصبحنا من غير المرغوب فينا في هذه الكلية- وأنت لا تزال نائباً ولا أعتقد أنك ستعين هنا.
- فليكن ما يكون وسنستمر فيما بدأنا فيه ، فلا سبيل إلى التراجع....

استمر الإضراب خمسين يوماً وعمَّ مصر كلها ، وتم إصلاح أوضاع الأطباء بعدها.))

أ.د. مصطفى الرفاعي أستاذ جراحة المسالك البولية ، كلية طب الإسكندرية، متحدثاً عن
إضراب الأطباء عام 1951
من كتاب خواطر طبيب - الطبعة الأولى 1995 - منشاة المعارف

الأربعاء، يناير ٠٩، ٢٠٠٨

من المحجوب إلى لبيب

عقار لوران المنهار

في يوم الاثنين 25-12-2007 ، وفي حي لوران الهادئ انهار العقار رقم 11 بشارع ابن خلكان فجأة، ليقتل 35 شخصا، ويصاب 3 آخرون.

*****


كانت قائمة المتهمين في الحادث طويلة : عمال بناء يقومون بأعمال ترميم في الدور الأول، مالكة العقار، مهندسو وموظفو الحي، مصمم المبنى، المقاول الذي نفذه، من صرح بإضافة أدوار إضافية: الفساد، الإهمال، الغش...إلخ

كان مانشيت جريدة الدستور اليومية: " عمارات المحجوب تنهار في اسكندرية"

****

محمد عبد السلام المحجوب
في 9 يوليو 1997 تولى اللواء عبد السلام المحجوب منصب محافظ الاسكندرية، تسبقه سمعة جيدة عن الأعوام الثلاثة التي قضاها محافظاً للإسماعيلية. تضمنت السيرة الذاتية له خدمة في القوات المسلحة المصرية ثم وزارة الخارجية المصرية كملحق عسكري، وعضويته في جهاز الأمن القومي وعمله كنائب لرئيس الجهاز.


حقق المحجوب خلال سنوات عمله كمحافظ للإسكندرية ما وصف بالمعجزة السكندرية. ساد سكانها شعور بأن الأيام المريعة السابقة التي كانت فيها المخلفات البشرية تملأ مياه الشواطئ بجوار المصطافين، بينما تغرق الشوارع في مياه الأمطار وتملأ القمامة الشوارع ذات الأسفلت المحطم قد ولت بلا رجعة. قام المحجوب بتوسعة كورنيش الاسكندرية الذي كفل سيولة مرورية كبيرة للمدينة ، وأعاد تنظيم محطة مصر ناقلا معظم خطوط الميكروباصات منها إلى الموقف الجديد الذي أنشاه على حدود الاسكندرية، ونقل موقف السوبرجيت من قلب الاسكندرية في وسط البلد إلى منطقة أهدأ في سيدي جابر، وتم في عهده التعاقد مع شركة تنظيف أجنبية لرفع القمامة، وتم تجميل الكثير من الحوائط بجداريات عملاقة، وأعيد بناء وتزيين محطات الترام وأغلب الميادين الرئيسية، كما تم تطوير معظم الشواطئ.

أحب السكندريون تلك الروح الجديدة التي بُثَت في مدينتهم ، وحاز المحجوب على لقب المحبوب لما قام به إضافة لأنه اشتهر بسياسة تحاول دوما مواءمة أوضاع المواطنين وإرضاء مطالبهم المباشرة ما دام ذلك في إمكانه ، سواء في مواءمته لأوضاع مجموعة ورش مخالفة أو سوق شعبي عشوائي أو بنايات مخالفة في الارتفاع...الخ، وما عرف عنه من تواضع وترحيب بلقاء المواطنين والاستماع إلى شكاواهم.(أتذكر شخصيا رؤيتي له في مقعد خلفي في سيارة من سيارات المحافظة - بيجو 406 على ما أذكر- منتظراً فتح الإشارة في أحد الشوارع القريبة من مبنى المحافظة ودون موكب مرافق).

مع كل تغيير وزاري وضع السكندريون أيديهم على قلوبهم مقتنعين أن المحجوب سيُبعَد من مكانه لغير سبب سوى حبهم له، إذ كانوا مقتنعين اقتناعا تاما أن قواعد اختيار المسؤولين هي اختيار الأسوأ الذي يتمتع بكراهية شعبية، وإن حدث خطأ في الاختيار - كحالة المحجوب في رأيهم- يتم التصحيح سريعا.

كانت سياسة المحجوب هي استخدام موارد المحافظة في تطويرها مع تشجيع مساهمات رجال الأعمال عن طريق تقديم تسهيلات لهم أو تطبيع أوضاع المخالفين منهم في مقابل تبرعات عينية - كتجميل ميدان أو دهان بعض المباني- أو مادية بدلا من أن تصب النقود في طرق غير شرعية كرشاوٍ في المحليات مثلا، وتشجيع القطاع الخاص كالتعاقد مع شركة نظافة فرنسية لرفع المخلفات والاعتماد على القطاع الخاص في إدارة الشواطئ العامة.

ظل المحجوب متمتعاً بشعبية عالية وسط مواطني الإسكندرية طوال سنوات توليه لمنصب المحافظ، وإن كانت الحماسة السابقة قد هدأت قليلا. في النصف الثاني من فترة ولايته كان مألوفاً أن تسمع تذمرا وشكوى من أبناء المدينة بعد أن كان كل ما تسمعه هو مديحا له. بدا بعد مرور وقت ما أن ما تم ليس "معجزة" ولا "انجازا تاريخيا"، فالإسكندرية قطعة من مصر على كل حال، وظروف المعيشة فيها كظروف المعيشة في بقية محافظات مصر في عهد مبارك. لم يبد تجميل المدينة أو توسعة الكورنيش مؤثرا في حياة البعض، الذين اشتكوا من تجاهل المحجوب للأحياء الشعبية كليا، التي لا تتمتع بالكثير من الخدمات ويتحول بعضها خلال الشتاء إلى برك كبيرة من مياه الامطار والمجاري، وتركيزه على واجهة الاسكندرية. كما أن البعض تحسر على أيام الشواطئ المجانية لارتفاع تكلفة الدخول والجلوس على معظم الشواطئ. وبدأ البعض في الشكوى من الازدحام الذي تخلقه العمارات ذات الارتفاعات المخالفة. رأى البعض أن تساهل المحافظ في السماح بالارتفاع حول المدينة إلى كتل متلاصقة من الخوازيق قبيحة المنظر، وإن كان الأغلبية يرحبون بذلك الحل لتسهيله من السكن في المدينة، وخفضه لقيمة العقارات، واسهامه في رواج اقتصادي في الاستثمارات العقارية.

هكذا غادر المحجوب موقعه إلى منصب وزير التنمية المحلية في 2007، متمتعا بتقدير مواطني الإسكندرية وإن كانت حماستهم تجاهه أقل مما سبق. (انظر التعليقات)

من سرق الإسكندرية لعلي عيسى ، بدون ناشر، الطبعة الأولى 2005
قرأت وقتها كتابا بعنوان من سرق الإسكندرية لعلي عيسى، يهاجم المحجوب وسياساته بضراوة عارضا لعدة ملفات بالوثائق. تتلخص اتهامات الكتاب في أن رجال الأعمال حصلوا برخص التراب على أراض زراعية أو مملوكة للدولة وهي الأراضي المتاخمة لاسكندرية والتي أصبحت لاحقا الامتداد العمراني للمدينة( جرين بلازا سموحة، الحديقة الدولية وكارفور وداون تاون وأكاسيا..الخ) مقابل تبرعاتهم بتبرعات بسيطة أو مشاركتهم في أعمال تجميل. عرض لإهدار 300 مليون جنيه بمنح سيدة وابنها 25 فدانا في أرض مدينة مبارك الرياضية بعشرين جنيها للمتر بينما تزيد قيمته الحقيقية على ثلاثة آلاف جنيه. ولقضية ردم 20 فدانا من بحيرة مريوط لصالح المستثمر عصمت ناثان لينشأ عليه مصنع اسطوانات بوتاجاز - كيروجاز- مما تسبب في الاضرار بالصيادين في البحيرة الذين رفعوا قضية نظرها القضاء الإداري الذي حكم لصالحهم ببطلان قرار التخصيص والردم وإنشاء المصنع لكن لم يتم تنفيذ حكم المحكمة الذي جاء في حيثياته أن المحافظ أهدر ثروة قومية واعتدى اعتداء صارخا على البيئة. وعرض لقضية عقد الحديقة الدولية حيث تم التعاقد لمدة 20 عاما بمقابل انتفاع 9 ملايين جنيه فقط (حق استغلال المتر أقل من جنيه واحد في السنة) كما تم استغلال أراضي الحديقة لإنشاء مبان خرسانية ومنشآت استثمارية دون مراعاة للبعد الاجتماعي الذي من أجله أنشأت الحديقة، وعرض أيضا لقضية جرين بلازا حيث تم إنشاء مول ضخم وفندق ومدينة ملاهي على أراض زراعية بالمخالفة لموافقة وزارة الزراعة على إنشاء مدينة الملاهي على 6 فدادين فقط من 14، بينما أنشئت المنشآت على الاراضي كلها. لفت نظري أن المؤلف رغم وصفه الحماسي لكتابه بأنه "وثيقة دامغة تؤرخ لفترة تاريخية من الفساد في الإسكندرية لم يحدث في عهود سابقة ونأمل ألا يتكرر في عهود قادمة"، فإنه بدأه بقوله " استغل بعض رجال الأعمال حماس اللواء محمد عبد السلام المحجوب محافظ الاسكندرية في مشروعات التجميل وإضفاء الطابع الجمالي والحضاري في تحقيق ثروات طائلة بالمخالفة للقانون ضاربين عرض الحائط بحرمة المال العام وشعب الاسكندرية وخاصة الفقراء من أهالي الثغر". فكرت أن هناك دائماً "لكن" عند انتقاد أحد السكندريين للمحجوب ، وفي أن هذه الانتقادات تمثل الوجه الآخر للمعجزة، هي الثمن الذي حصل عليه رجال الأعمال مقابل مشاركتهم المجتمعية..

************

المحافظ عادل لبيب يستمع لشرح بينما يقف في موقع العمارة المنهارة بلوران

جاء اللواء عادل لبيب خلفاً للمحجوب في منصب محافظ الاسكندرية. لا تتوفر معلومات تفصيلية عن سيرته الذاتية، وإن كان شهيراً بتوليه منصب مدير الامن بالإسكندرية وبخدمته في أمن الدولة بالبحيرة واقترابه من ملف الإخوان المسلمين، ثم تولى منصب محافظ قنا حيث كانت له تجربة شهيرة أطلق عليها أيضاً المعجزة القنائية ( عن هذه التجربة اقرأ عرض محمد إلهامي الرائع هنا) ثم تولى منصب محافظ البحيرة لفترة محدودة ، حيث اشتهر بفحته لأغلب شوارع مدينة دمنهور - بما أثار شماتة كارهي الدماهرة- ثم قبل أن يكمل ما كان يقوم به، نقل إلى الإسكندرية.

بدأ لبيب فترة توليه لمنصبه بإطلاق تصريحات عن اختلاف طرقه عن طرق المحافظ السابق وعن رغبته في إزالة العقارات المخالفة، والتي يزيد عددها عن خمسين ألفاً. كان هدم منازل في منطقة العجمي ، نتج عنه مصادمات بين الاهالي والأمن المركزي مؤشراً على نهج المحافظ الجديد. توالى الهدم والاحتجاجات بعد ذلك في المفروزة والمنتزه. واصل المحافظ تصريحاته: لن أرحم، لن أسمح ...الخ. أدت سياسات المحافظ في منح التراخيص وعدم السماح بأي ارتفاع مخالف فضلا عن إزالة الأدوار المخالفة غير المسكونة، مع ظروف أخرى عامة ( تدفق أموال من دول عربية، واتجاه الكثيرين للاستثمار في مجال شراء الأراضي والاستثمار العقاري مثلا) إلى ارتفاع في أسعار العقارات جعل من أسعار الشقق في الإسكندرية نكتة سخيفة فعلاً.




رصيف محطم
بدأ بعد ذلك تكسير أغلب أرصفة شوارع الإسكندرية في وقت واحد. أينما ذهبت، تجد أرصفة مدمرة، وعمالا يحفرون ويحطمون في حماس. كان الكثير من الأرصفة سليما بل وتم ربما تم إصلاحه قريبا، لكن ذلك لم يكن مؤثراً، فمهما كان الشارع ضيقاً أو عريضاً، صغيراً أو كبيراً كان يتم تحطيمه والعمل فيه من جديد. ( اقرأ لجدو اسكندر اعتراضاته الفنية على ذلك القرار هنا). كانت الشوارع مزدحمة، ولم يجد المشاة مكاناً يمشون فيه ، وبدت المدينة كأنها خرجت من معركة. توحد السكندريون في سيمفونية طويلة تصب غضبها على المحافظ، وتلجأ لتفسيرات تآمرية كوميدية ( عن أن أحد أقاربه - جوز بنت خالته كما يؤكد لك سائق التاكسي- لا بد مستفيد بصورة ما من تحطيم كل هذه الارصفة) أو ساخرة ( معمول له عمل ومدفون في رصيف، ويبحث عنه).



كافيه بعد البلدوزر
تبدت شخصية المحافظ أكثر بقرارات الهدم التي يتخذها، هدم المنازل المخالفة الذي ذكرته سابقا، أوإزالة سنتيمترات زائدة عن المسموح به في أكشاك الصحف، أو نقل مواقف الأوتوبيسات خارج المدينة ، ومطاردة مواقف الميكروباصات "غير الشرعية" حتى تلك التي لا تؤثر في المرور مهما كان عدد مستخدميها، وتكثيف حملات الإزالة ( ما تسمى بالبلدية في القاهرة) على الأسواق وعلى الباعة الجائلين، أو حتى إزالة الأجزاء البارزة الزائدة من أحد الكافيهات. ( أثر هذا القرار الأخير كثيراً في "فرافير" اسكندرية، فتلقيت ايميلا متداولا بينهم بعنوان عاجل جدا يحوي صور الكافيه وقد تم إزالة أجزاء منه بالبلدوزر -وسيلة المحافظ المفضلة- لأن الكافيه كان ملتقى مفضلا لهم)

عموماً، لإحداث بعض التوازن قبل أن أكمل، هنا لقاء مع المحافظ يعرض فيه لوجهة نظره بخصوص هذه القضايا، ويشرح موقفه.

في ذلك الوقت وبينما أشعر كغيري من السكندريين بالحنق من سياسات المحافظ الجديد، قرأت مقالا نشر في المصري اليوم لعمرو الشوبكي بعنوان ثمن الإصلاح. استفزني المقال جداً، فحصلت على ايميل الشوبكي من صديق وقررت أن أرسل له رداً على ما كتب، لكن للأسف لم أكمل الرسالة وقتها، ثم نسيتها بمرور الوقت. يعرض الشوبكي في مقاله للآراء التي سمعها من مواطنين سكندريين بعد زيارات قام بها للمدينة والتي تنتقد جهود المحافظ ، وهي الآراء التي استغربها لأنه توقع أنه سيجد التجربة نالت إجماعا كتجربة المحافظ السابق في قنا ويكمل ليقول أن تجربة اسكندرية :

" تعطي مؤشرات علي صعوبة عملية الإصلاح، ليس فقط نتيجة غياب الإرادة السياسة من أهل الحكم لإجراء إصلاحات حقيقية إنما أيضا بسبب ثقافة سائدة قائمة علي الاستسهال، والأخطر أنها تعايشت مع الوضع القائم وخلقت أنماطاً مريحة للتعامل معه تعتمد علي الفساد المباشر أحيانا والسمسرة والفهلوة أحياناً أخري،

فكل بناء مخالف كان يبني في الإسكندرية أو في غيرها من المدن المصرية كان يخلق مناصرين من الأثرياء ومن الفقراء، ومن المستفيدين مباشرة منه، ومن غير المستفيدين مباشرة ولكن يستنفعون من بقائه، وصارت هناك شبكة كاملة من الأعمال والصفقات والقيم تستفيد من الأوضاع المخالفة تراكمت علي مدار السنين وأصبح من الصعب تغييرها بسهولة.

والحقيقة أن هناك ثمناً للإصلاح السياسي والإداري غير مستعدة الحكومة لدفعه، وتتناساه بعض القوي المطالبة بالإصلاح، ويغيب عن ثقافة الموظفين الذين لا يعملون، وأساتذة الجامعات الذين نسوا العلم وتصارعوا علي المناصب الإدارية، وكثير من الصحفيين والكتاب الذين لا يصلحوا أن يكونوا قراء.

والمؤكد أن الإصلاح لا يعني فقط انتخابات حرة ونزيهة وتداولاً سلمياً للسلطة، ولكنه سيعني جامعات تخرج علماء وباحثين قبل أن تخرج سياسيين، ومعايير جديدة لاختيار كوادر الدولة والعاملين فيها من قضاة وضباط وموظفين، وإعلام وصحافة مملوكة للشعب وليس لحزب الحاكم.

ولكن السؤال الذي طرح في الإسكندرية سيطرح علي كل مصر، وهو كيف يمكن التعامل مع تشابكات القديم، والأوضاع التي تشكلت علي المخالفات، والأجيال التي خرجت واحتلت مواقع ولم تتعلم شيئا، والمستوي المتردي لمؤسسات الدولة التي صارت جميعها علي مقاس المسؤولين فيها من محدودي الكفاءة والعلم وأحيانا الأخلاق. "

عمرو الشوبكي
ثم ينهي مقاله بضربه مثالا بالجامعة، وقوله أن أي رغبة في اصلاح أحوال الجامعة ستواجه بقوة من المنتفعين من أوضاعها من نظام المعيد الخالد، ومن المحاباة وأولاد الأساتذة..ألخ

كنت سأقول للشوبكي أن الحديث عن ثمن الإصلاح في الاسكندرية يفترض بداية أن ما يقوم به المحافظ في الإسكندرية هو إصلاح. كنت سأقول له أن القرارات الفردية والإصرار على العنف لا يسهل اعتبارهما إصلاحاً. كنت سأقول له أن السخط الذي ولده تنفيذ القوانين دون مخالفات ليس بسبب وجود شبكة من الفساد والسمسرة والفهلوة في المدينة، بل لوجود أزمة سكن تفرض خرق القانون، أو تتطلب من الدولة الوصول لحل آخر بدلا من حصر الناس وظهرهم إلى الحائط، لأن البديل هو "خراب بيوت" الكثير من الشرفاء -وليس اللصوص أو الفهلوية- الذين يعملون في مجال العقارات، وخراب بيوت فعلي لممتلكي المنازل المخالفة. يفترض تأييد المستبد العادل الإيمان بوجود فرد ذي رؤية إصلاحية في مواجهة جماهير جاهلة، ويتناسى أن المعارضة للإجراءات التي يتخذها الجمهور لهذا الديكتاتور تكون في الأغلب لأسباب مصلحية مباشرة كما هو واضح في حالتنا هذه ، أو لإحلال نخب جديدة مكان نخب قديمة مثلاً في حالة القرن التاسع عشر ، بينما تُسَفَّه هذه المعارضة بإلحاقها بأسباب ثقافية كالجهل في القرن التاسع عشر، أو استمراء الفهلوة والفساد في حالتنا هنا. بذل الكثير من المؤلفين جهوداً كبيرة لتفكيك الخطاب السلطوي القمعي الذي استخدم في مصر القرن التاسع عشر من قبل المستبدين المستنيرين، ولكن... نحن، في القرن الحادي والعشرين، محافظ مستبد مستنير إيه بس!! كنت سأقول له أن للإصلاح ثمنا بالفعل، ومثال أساتذة الجامعة مثال جيد، وإن كان يُفترض به أن يدرك أن على الباحث عن الإصلاح في الجامعة أن يلتفت إلى أن أكبر مؤيد ومساند لجهوده سيكون من جموع المصريين المتضررين المباشرين من أوضاع الفساد والمحاباة بالجامعة، وهؤلاء هم أغلبية المتعاملين مع الجامعة، من الذين لا يتلقون تعليما مناسبا، أو يُفَضل عليهم أبناء الأساتذة في الدرجات والتعيين...الخ، بدلا من التحسر على المصريين الجهلة محبي الفساد الذين ينتظرون النخبة المستنيرة لتصلح أوضاعهم رغم مقاومتهم العنيفة لذلك.

لكن لم أرسل ذلك الإيميل للأسف.

المهم، بمرور الوقت، ومع انتهاء العمل في الأرصفة، بدأ إعادة رصف الشوارع، وتم إعادة رصف عدد من الشوارع الرئيسية فضلا عن بدء العمل في شوارع عدد من الأحياء الشعبية التي ربما لم يتم رصفها منذ عشرات السنين. أدت هذه الاجراءات إلى تحسن في شعبية المحافظ، وإن كانت الأغلبية لا تزال تحمل تجاهه مشاعر سلبية. بدأ العمل أيضاً في مشروع إدخال الصرف الصحي إلى العجمي، وهو مشروع إن تم في الوقت المحدد لذلك، سيكفل تقديراً كبيراً للمحافظ. العجمي هي منطقة كبيرة الحجم يسكنها مئات الآلاف من الطبقة الوسطى، وهي واحدة من أواخر المناطق العشوائية الرائعة حيث كان بإمكانك أن تبني فيللا من دورين وتمد شارعاً أمام منزلك يتسع ويضيق حسب مزاجك وتسميه شارع المهيب الركن فلان الفلاني. المحصلة النهائية طبعا كانت بحراً من القبح الاسمنتي والعشوائية وتحول العجمي إلى بركة كبيرة من المياه السوداء كريهة الرائحة يمكنك أن تركب فيها جندولا كلما هطلت الأمطار في الإسكندرية.


**********************


من الممكن تفسير الاختلاف في أساليب وطرق تعامل كل من المحافظَين - عوضا عن إرجاعه إلى اختلافات في شخصية كل منهما- بالتفكير في المؤسسة التي جاء كل منهما منها. فالمحجوب جاء من جهاز الأمن القومي ، بينما جاء لبيب من الشرطة و/أو أمن الدولة. يجعل هذا لدى الاول إدراكاً لتعقيدات الحياة، وفهماً أوسع لمفهوم الأمن، بينما يجعل لدى الثاني اهتماماً عالياً بهيبة الدولة وسطوتها والتطبيق الحاسم للقانون.


النظام القوي والدولة الضعيفة - سامر سليمان - الطبعة الثانية 2006 - الدار للنشر
لكن إذا أردنا أن نبتعد عن الشخصنة، فسنلجأ لتفسير اجتماعي - اقتصادي من كتاب الاقتصاد السياسي الهام لسامر سليمان " النظام القوي والدولة الضعيفة : إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك". يعرض الكتاب للأزمة المالية وعجز الموازنة وكيف حاول النظام التواؤم معها، واختار تجربتين من محافظتين مختلفتين نجحتا في تحقيق تنمية محلية أفضل من بقية المحافظات. كانتا للمصادفة تجربة المحجوب في الإسكندرية ، وتجربة لبيب في قنا. عنون حديثه عن الإسكندرية ب"الشراكة بين الدولة ورجال الأعمال"، بينما عنون حديثه عن قنا ب" نموذج المستبد العادل". يفسر سليمان الاختلاف بين التجربتين في استنتاجاته بعد عرضه للتجربتين ب:

"اختلاف طبيعة التركيبة الاقتصادية الاجتماعية في المحافظتين.

الإسكندرية هي المدينة الأكثر سكاناً والأشد ثراءً بعد القاهرة.....ولكن قنا على الجانب الآخر هي محافظة فقيرة ، تحتل المرتبة الواحدة والعشرين بين 26 محافظة في الجمهورية من حيث التنمية البشرية ... التكوين الإجتماعي مختلف في المحافظتين. الإسكندرية يوجد بها طبقة متطورة نسبيا من رجال الأعمال ، بينما لا توجد طبقة رجال أعمال في قنا. يوجد فقط أغنياء هنا وهناك. وعلى هذا فإن الشراكة بين المحافظة ورجال الاعمال مستحيلة في قنا.

وتواجد رجال أعمال في مدينة ما يغير في العلاقة بين السلطات المحلية والسكان. في قنا يستطيع المحافظ أن يستخدم الشدة والحزم مع السكان المحليين بدون صعوبات كبيرة. إنه يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع محافظ الإسكندرية أن يفعل... استخدام العصا. عندما كان كاتب هذه السطور بمكتب المحافظ لإجراء المقابلة كان اللواء لبيب يستقبل في ذات الوقت مقاولاً مكلفاً بتنفيذ أعمال في المحافظة. لم يتورع المقاول عن تعنيف المقاول واتهامه بالنصب. ووفقاً لمصادر في المدينة ، فإن الجملة الشهيرة التي تتردد من جانب المحافظ لمن يعتبرهم من المتكاسلين أو غيرهم هي "هاعتقلك". خلاصة القول إن النموذج الذي يعمل به محافظ قنا هو نموذج "المستبد العادل". وهو يعتمد على أسلوب استبدادي في فرض ما يريده، لكنه يخفف من الطابع الاستبدادي بحقيقة أنه يستبد من أجل تطبيق العدل والنظام. وهو الامر الأصعب في محافظة الإسكندرية. فيصعب علينا أن نتصور أن يتعامل المحافظ بنفس القدر من الاستبداد مع طبقة رجال أعمال متطورة أومع نخبة قوية كالتي توجد في الإسكندرية. كان لفرض رسوم قنا على سكان الإسكندرية أن يخلق مقاومة شديدة. لذلك حينما يطلب المحافظ من السكان مساهمات في تنمية المدينة يجب أن يعتمد أكثر على أسلوب التبرعات. هكذا ما يدفعه القناوية في شكل رسوم يدفعه السكندريون في شكل تبرعات.

النمطان المختلفان في التعبئة لهما نتائج مختلفة. الإسكندرية اليوم تحمل ختم رجال الأعمال . انظر إلى الميادين وإلى النافورات التي تحمل أسماء رجال الأعمال . انظر إلى شواطئ اسكندرية التي أصبحت مخصصة، وانظر على الجانب الآخر إلى كورنيش قنا الذي يظل ملكية عامة. ...
... نحن إذن أمام تجربتين في تمويل الدولة، عن طريق الضرائب والرسوم القسرية بدون أن يكون للمجتمع كلمة في تقرير هذه الضرائب، أو عن طريق التبرعات الطوعية التي يقوم بها الاغنياء مقابل منافع محددة. وفي الحالة الأولى نحن أمام استبداد من الدولة، وفي الحالة الثانية نحن أمام استبداد للدولة إلا مع رجال الأعمال."


***********
في أحد الايام التي استغرقتها كتابة هذه التدوينة ، كنت أركب السيارة مع صديق، وبينما أدور في شوارع ضيقة بسبب العربات المصطفة على الجانبين محاطاً بالخوازيق وناطحات السحاب باحثا عن خرم إبرة لأركن السيارة، دون أن أنجح في ذلك، قلت لصديقي :" أهو ده كله بسبب المحجوب". لم أتمكن أبداً من تكوين رأي قاطع في مسألة العقارات ذات الارتفاعات المخالفة، كنت أكره منظر الخوازيق القبيحة التي لا يدخلها الشمس ، والزحام الذي تسببه، الضغط على البنية التحتية، وسوء مواصفات بنائها...الخ ، لكنني كنت أدرك أنه لا غنى عنها في ظل ظروف السكن الحالية. قال لي صديقي أن لا أقسو على المحجوب مشبهاً إياه بجنرال ينسحب من ساحة معركة محاولاً الحفاظ على أكبر قدر من جنوده، فلا يجب سؤاله في حالته تلك عن خسائره. قال أنه أدار المحافظة في بلد مأزومة بالإمكانيات المتوافرة لديه، وأنه تمتع ببصيرة جعلته يفضل مصالح الناس على تطبيق القانون عندما كان تطبيق القانون سيؤدي لضرر أكبر من النفع، وأنه أدرك أنه في بعض الأحيان تكون النتائج المترتبة على إغلاق الأبواب في وجه الناس - إزالة سوق عشوائي كامل مثلا- ذات تأثير سلبي على الأمن والقانون أكثر من تطبيق نص قانون للحفاظ على سيولة المرور أو المنظر الحضاري مثلا...

بالنسبة للمستقبل ، ستتحدد أشياء كثيرة بالنسبة للمحافظة بتحدد الطريقة التي سيتم بها تعمير المناطق الزراعية - حول الطريق الدولي- وتلك الصحراوية - بامتداد محور التعمير، وقرب بحيرة مريوط- والتي يتجه إليها العمران حثيثا. لا أحد يعلم يقينا إذا ما كانت ستنشأ هناك مجمعات مسورة تحوي فيلات يهرب إليها صفوة السكان تباعا ، كما الحال في القاهرة، أو ستترك للعشوائية وأن يبني كل فرد ما يريحه على أرضه، أو سينشأ نوع من الإسكان الشعبي على غرار مشروع ابنِ بيتك للشباب، أو سيتم إنشاء مبانٍ متوسطة الارتفاع مع قدر لا بأس به من التخطيط.

عموما وكما كنت سأنهي رسالتي لعمرو الشوبكي، فبالنسبة لمسألة المحافظين، كما لغيرها من المسائل، نحن في انتظار أن يكون للناس رأي في إدارة حياتهم ومدينتهم ، ورأي في التفكير في مستقبلهم. نحن في انتظار الديموقراطية.

الأحد، يناير ٠٦، ٢٠٠٨

عن أفلام العيد

ملاحظات متفرقة عن أفلام العيد، أو بعض ما دار في عقلي بعد مشاهدتها:

خارج على القانون:

كان الفيلم محبطا للأسف. كان الإخراج والتمثيل ( حتى تمثيل حسن حسني!) والموسيقى جيدين جدا، لكن المشكلة كانت في الحدوتة: فيلم إثارة غير مثير، مفاجآته غير مفاجئة. تفشل القصة في جذب انتباهك أو مفاجأتك بشيئ غير مستهلك أو غير ممل، حتى مناقشة حرية الإنسان بين التسيير والتخيير جاءت مباشرة للغاية. يتركك الفيلم لتقول: " وبعدين يعني؟ هوا بس كده؟". بعد نجاح الثلاثي ( بلال فضل، أحمد جلال، كريم عبد العزيز) في أبو علي وواحد من الناس، قدموا فيلما كوميديا غير كوميدي (في محطة مصر) ، وفيلم إثارة غير مثير ( خارج على القانون)، والمشكلة كانت في الحالتين في القصة.

أجمل إفيه في الفيلم عندما قال كريم عبد العزيز: "البلد دي فيها ابن الدكنور بيطلع دكتور، وابن الضابط بيطلع ضابط، وابن تاجر المخدرات بيطلع تاجر المخدرات"، ليكمل الجملة متفرج يجلس أمامي : "وابن رئيس الجمهورية بيطلع رئيس جمهورية" وتنفجر القاعة في الضحك.

الجزيرة:

لن أضيف جديدا بحديثي عنه. فالفيلم نجح نجاحا مبهرا مستحقا كأفضل أفلام العيد. ساعة ونصف من المتعة.

الماجيك:

كنت أتوقع أن أشاهد نسخة أخرى من أوقات فراغ، لكن لم يكن هناك تشابه ينهما سوى في فريق العمل، وفي الكم المرتفع للمشاهد المثيرة، ربما لاجتذاب الجمهور الشاب الذي أحب الفيلم الاول.
هو فيلم قاس، يقدم صورة لمجموعة من الشباب الفقير المحبط، الذي يرغب بقوة في أن يكون جزءً من العالم البراق الذي يراه أمامه: أن يلبس أفخم الثياب، أن يمسك بأحدث الموبايلات، أن يركب أحدث السيارات..الخ. يعذبهم أنهم مستبعدون من ذلك العالم الذي يحلمون به، والذي يعرفون كل تفاصيله جيدا دون أن يتمكنوا من الولوج له. لن تتحقق أحلام الشباب بضربة حظ كما في أفلام قديمة، أو بالكفاح كأفلام لاحقة، بل سيقررون أن يحصلوا الآن وهنا على كل هذه النعم الاستهلاكية. يكونون عصلبة ويسرقون وينصبون للحصول على ما يريدون. بينما لا يكون أمام الفتيات في الفيلم إلا بيع أجسادهن.

في الفيلم مشهد مؤلم للغاية لقسوة الشرطة، فبعد أن يوقف الأبطال كمين شرطة، يجلس ضابط مستمتعا بينما يخرج من اكتشف أنه أفقرهم ليقف وحيدا، وفي سادية يطلب من أصدقائه الباقين أن يضربوه على قفاه إذا أرادوا أن يخلي سبيلهم. ذكرني بالمرات العديدة التي كنت أركب فيها ميكروباصا للسفر بين المحافظات، وعند مدخل المحافظة يطل امين شرطة في ملابس مدنية -أو مخبر، لا أعرف حقيقة- على الركاب، ويمسحهم بعينيه باحثا بعينين خبيرتين عمن يبدو أفقر فيسأله للتأكد :" ساكن فين؟" و"بتشتغل ايه؟" ، وعند سماعه لحي فقير أو عشوائي أو مهنة حرفية يشير له بالنزول ويقوم بتفتيشه وتفتيش حقائبه وقد يبقيه عنده ليؤانسه قليلا، بينما الإجابة بمهنة "محترمة" أو سكن بمنطقة "محترمة" يجعلان المخبر يترك الراكب في سلام.


حين ميسرة:

المميز في الفيلم باختصار هو shock value. يعرض الفيلم للحياة في العشوائيات وسكانها الذين يحيون على هامش الحياة. يعرض كل التفاصيل ولا يدخر شيئا: فقر وقذارة وقسوة وجريمة. جنس يمارس على مقربة من أطفال نائمين وصرخات عروس تُفتَضُ ليسمعها كل الجيران. أم وابنتها يتبادلان الضرب والسباب، أم تتخلص من ابنهاالرضيع، ...الخ. حرص الفيلم على أن يصدم المشاهد لأكبر قدر ممكن، لم تبتعد الكاميرا لتترك شيئا للخيال، بل حرصت على أن تواصل بقسوة.

بالنسبة لي، لم أُصدَم كثيرا بما شاهدته. كنت قد قرأت أعمالا أدبية عن حياة العشوائيات ( لصوص متقاعدون لحمدي أبو جليل، بازل لحسين عبد العليم مثلا)، وشاركت مرات محدودة في جهود جمعية أهلية منذ سنوات في أحد العشوائيات، وكان عملي السابق في مستشفى في منطقة فقيرة محاطة بمناطق عشوائية حيث يأتيك بعض المرضى وهم تحت تأثير المخدرات وفي أحوال أخرى وهم يعانون من أعراض الانسحاب، وفي بعض الاحيان عندما ينحني مريض ما ستجد مطواة تبرز من ملابسه، وقد يسعدك الحظ بمشاهدة مشاجرة بين رجل وأمه يتبادلان فيها السباب بالدين والميتين إلى غير ذلك مما يناسب الظروف، وحيث يتعرض زميل لك للتثبيت وتسرق محفظته وموبايله، فيكون عليه التوجه إلى الكومندا - كبيرة حرامية المنطقة- والتي تقابله بترحاب وتعتذر له عن الإزعاج وتعيد له ممتلكاته. لم يجعلني أي من ذلك خبيرا بالعشوائيات، بل كون لدي معرفة سطحية بها ، وجعلني أتوقع ما قد يقدمه الفيلم.

المهم، أدى حرص الفيلم على تقديم صورة صادمة لحياة العشوائيات إلى اقترابه من نزع الانسانية عن سكانها. وكما كتبت دعاء عادل فشل الفيلم في توصيل رسالة تبعث على التعاطف مع أبطاله، ورسم التفاصيل بفجاجة، وإن كان يحسب له اختياره للموضوع.

وبغض النظر عن رسم صورة صادمة لحياة العشوائيات وأطفال الشوارع، كان مسار أحداث الفيلم وحبكته كوميديا بالنسبة لي ، حتى ظننت أن الاسم الذي ينطبق عليه أكثر هو "حين مسخرة". أراد الفيلم بصورة غير معقولة أن يعرض لكل الشرور والمصائب الممكنة في فيلم واحد ( أطفال الشوارع ، التحرش الجنسي، المخدرات، التعذيب، الشذوذ الجنسي، عقوق الأبناء، الفساد، الرشوة، استغلال النفوذ، الاستغلال الجنسي...الخ) لتكون النتيجة النهائية أن لا يقول شيئا عن أي منها. كما أن الخط الدرامي الخاص بسمية الخشاب كان كاريكاتوريا هو الآخر، فطوال الفيلم وهي تخرج من حادث اغتصاب إلى آخر، ومن تحرش جنسي إلى آخر، وتتوقف قليلا لتعمل في الدعارة..الخ. أما المجموعة الإرهابية العبيطة التي تعجز عن اقناعك تماما بأنها مجموعة إرهابية -وإن كانت متميزة جدا لتستخدم ويندوز اكس بي في التسعينات- ، والنهاية البائسة للفيلم فجاءا ليكملا صفة المسخرة التي تذكر برائعة خالد يوسف " خيانة مشروعة" - ولكن حتى لا نظلم حين ميسرة، فهو أفضل من خيانة مشروعة- وحرم هذا الفيلم من صفة الرائعة غياب الممثلين العظام ابراهيم عيسى وخالد يوسف والمغني الذي لا أذكر اسمه الذي يغني أغاني نضالية.