الأربعاء، ديسمبر ١٢، ٢٠٠٧

هي فوضى


هي فوضى - يوسف شاهين وخالد يوسف

spoiler warning- تنبيه: يحتوي على حرق للأحداث

يقدم شاهين في الفيلم رؤية لمصر الآن مع تقديمه للحل الذي يؤمن به أو يتوقعه، أو يتمناه. كانت الرموز التي استخدمها واضحة للغاية، حتى أوشك على التصريح، أو هكذا بدت لي على كل حال. كانت رؤيةً لمصر رسمت على شفتي ابتسامة ، إذ كانت قادمة من ربيع 2006 : من أجواء المعتصمين في شارع عبد الخالق ثروت على الرصيف المقابل لنادي القضاة، الذين ما إن يقفوا في شرفة النادي لتحية المعتصمين يقابلون بهتاف :" يا قضاة يا قضاة، خلصونا من الطغاة"، محاكمة البسطويسي ومكي، المظاهرات الهائلة التي تقمع كل خميس، الاعتقالات بالجملة، الشعور بأن التغيير على الأبواب.

زار شاهين القضاة المعتصمين في ناديهم ذلك الربيع لإعلان تضامنه معهم، كما أن تصريحاته الصحفية خلال الأعوام الماضية هي تصريحات معارضة غاضبة على النظام.

ولكن فلنتكلم عن الفيلم أولا ، حدوتة الفيلم عن أمين الشرطة الفاسد حاتم الذي يستغل سلطاته في فرض الإتاوات على التجار وفي قبول الرشاوي وفي التغاضي عن خرق القانون وفي تعذيب المتهمين..الخ، والذي يقع في حب جارته المدرسة نور التي لا تطيق رؤيته، بينما تحب بدورها ابن ناظرة مدرستها وكيل النيابة شريف، الذي كان متعلقا بفتاة غنيه مستهترة لكنه يتركها ليحب نور، ويحميها من مضايقات حاتم. يدبر حاتم اختطاف نور ويغتصبها، ويناضل شريف لاثبات التهمة على حاتم، وينجح في اللحظة التي يتجمع فيها الأهالي الغاضبون ليحاصروا قسم الشرطة ، ويهرب حاتم وعندما يحاصر بالأهالي وبرجال الشرطة يحاول قتل شريف لكنه يفشل فيقتل نفسه.

أدرك أن التلخيص المريع الذي قمت به جعل الفيلم يبدو كقصة رومانسية من الدرجة الثالثة، فما الجديد في الفيلم؟ كان جديداً ومدهشاً أن ترى على الشاشة الكبيرة من يذكر "الحزب الوطني" و"لجنة السياسات" بسوء - بصورة غير مباشرة، ولكن..- ، أن ترى من تقول: " مش كفاية قاعدين على قلبنا بقالكم 24 سنة"، أن تشاهد رجال الشرطة يتلقون الرشاوي ويسبون المواطنين، يخططون لتزوير الانتخابات ، يضربون المتظاهرين، يعذبون المتهمين، يهددون الناس ويخيفونهم بوظيفتهم، أو رجال شرطة تائهين فاشلين في عملهم أو ساديين عنيفين، أن تشاهد غرف الحجز قذرة كما هي فعلا ، أن تشاهد محتجزين سياسيين يضربون ضابطاً، أن تسمع هتافات سياسية حقيقية -"عمر السجن ما غير فكرة" مثلاً-


أما رؤية شاهين لمصر كما تبدت من الرموز المستخدمة فلم تكن جديدة كما أسلفت.. أمين الشرطة الفاسد - الذي أعتقد أنه لم يكن ضابطاً لأسباب رقابية فقط- هو السلطة الديكتاتورية التي تطارد الفتاة البريئة نور ( مصر؟ الشعب؟ المستقبل؟ ) ، التي تبحث عن مهرب فتلجأ إلى ناظرة المدرسة التي كانت ناشطة طلابية سبعينية ( المثقفون يلعبون أدواراً إيجابية؟) ، ووكيل النيابة ( القضاء؟) يساعدها بعد أن يترك الفتاة المستهترة ابنة عضو لجنة السياسات ( يتخلى القضاء عن أوهام العلاقة بالسلطة التنفيذية؟) ، وبعد حادث الاغتصاب، تقوم والدة نور بهية ( لاحظ الاسم ذي الدلالة الشاهينية ) بجمع الأهالي وتقودهم مع الناظرة لمحاصرة القسم ( ثورة عمادها المتضررون من النظام بقيادة شعبية وطليعة مثقفة؟) ، بينما داخل القسم يقوم وكيل النيابة ( القضاء؟) بأدوار بطولية: يحرر السجناء السياسيين ، يمنع الشرطة من إطلاق النار على المحتجين، بل ويقول لهم :"سأحميكم".( لا ترميز هنا!) كانت لافتات الانتخابات الظاهرة في الفيلم ممثلة لثلاث اتجاهات: الحزب الحاكم وهو بالطبع قضية مغلقة، والإخوان المسلمون الذين زارت مقر مرشحهم بهية ونور باحثين عندهم عن حل للمشكلة فواجههما رجل يحدثهما بلغة متقعرة لم تفهمانها ووجه لهما نصائح أخلاقية بعيدة عن المشكلة مهتما فقط بصوتهما في الانتخابات بانتهازية ( يعني ليس هناك ترميز كبير هنا أيضاً ، "الشعب" يكتشف "حقيقة" الإخوان وزيفهم وعجزهم عن الحل وانتهازيتهم...الخ)، ومرشح التغيير ذي اللافتات الحمراء الذي طار به الفيلم عشرات الكيلومترات جنوباً من بلطيم إلى شبرا: حمدين صباحي ، الذي لم يظهر في الفيلم سوى شعاراته على لافتاته : لا للتوريث، لا للخصخصة، مرشح العمال والفلاحين. هذه هي الطرق الثلاث - في رأي شاهين، أو في رمزه- أمام مصر، وعلى الرغم من أن طريق المعارضة الحمراء لم يظهر في الفيلم - سوى بخلفية الناظرة اليسارية- فإنه باستبعاد الوطني والاخوان لا يبقى سواه.

يعني باختصار: الشعب سيجمع قواه بقيادة المثقفين تاركا خلف ظهره الإخوان المسلمين يقوده المثقفون المعارضون ويحميهم القضاء -ويقودهم أحيانا- للتخلص من الديكتاتورية الحالية.

انتهى زمن رسائل ورموز "المصير" عن الوالي والأمير وأبنائه، فالريس غائب لا يعرف شيئا عن مرؤوسيه وشاهين لا يرى أي أمل فيه ( مأمور القسم التائه الغافل عن كل الفساد والتجاوزات الحادثة في قسم الشرطة والذي أدى دوره باقتدار أحمد فؤاد سليم ؟)

أعود لحيث بدأت: هو فيلم ذكرني بالعامين 2005 و 2006 بقوة، لكن مياها كثيرة جرت في النهر منذ ذلك الوقت: عدل الدستور بما يلغي قاعدة قاضِ لكل صندوق، وصرح القضاة بأن المعارضة ضعيفة وأساءت إليهم بتصويرهم كثوار، وقال ابراهيم عيسى - الذي كتب مقالا وقتها بعنوان" قضاء مصر قدرها" يلمح إلى امكانية التفاف المصريين حول القضاة كرموز لتغيير نظام مبارك- "أننا حملنا القضاة ما لا يطيقون، وحملناهم فعل ما نريده" ، وجلس الجميع في هدوء منتظرين انتقال السلطة. هي مصر غير موجودة تلك التي يقدمها شاهين، لكنها قد تكون حلمه أو أمله. كما أن الفيلم أخل بواقعيته الشديدة في المشاهد شبه الفانتازية لاقتحام وكيل النيابة للقسم وما تلاها، وأخل بالرمز بتركيزه الشديد على هوس حاتم بنور الذي يصلح مع حكيه عن طفولة محرومة لتفسير سيكولوجي لا سياسي للفيلم.

لا يقلل ذلك من قيمة الفيلم ومن المتعة التي نلتها بمشاهدته، وخصوصا بأداء خالد صالح.

بدأ الفيلم بمشاهد تسجيلية من مظاهرات طلعت حرب و القضاة ، وعصي الأمن المركزي ترتفع لتهوي فوق رؤوس المتظاهرين، ولكن قرب نهايته انعكس المشهد فأحاط المتظاهرون برجال الشرطة ارتفعت أيديهم لتضرب بانتظام كأنهم يحملون عصيا، بينما فر رجال الشرطة هاربين إلى داخل القسم.