الأحد، أبريل ٢٧، ٢٠٠٨

ثورة 2053 - البداية


رواية - محمود عثمان - الطبعة الاولى ديسمبر 2007 - ب.ن.




تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب ( العام 2026) على صورة مذكرات لبطلها المهندس الشاب محمد نصار. تبدو الرواية للوهلة الأولى Dystopia (يوتوبيا معكوسة) مسقبلية تقليدية تتخيل المجتمع المصري بمفرداته الحالية في صورة ممسوخة كابوسية تضخمت فيها العيوب، مع مفردات تقدم تكنولوجي مذهل، لكن الرواية تحمل أكثر من ذلك بكثير، فضلاً عن أن بها من اللحظة الراهنة أكثر بكثير مما بها من المستقبل.




نتعرف على حياة البطل محمد نصار. هو مهندس شاب ناجح ومجتهد صاحب شركة تصمم أنظمة الكترونية متقدمة، ينتمي للطبقة الوسطى العليا، في مجتمع لم يعد به سوى طبقة عليا وأغلبية تحيا في ظروف غير آدمية فيما تصارع الطبقة الوسطى العليا من أجل البقاء واللحاق بالطبقة العليا، وهو حلم المهندس محمد نصار مدمن العمل الذي يصارع لتصبح شركته شركة كبرى. يحيا حياة باردة وحيدة ليس بها سوى العمل، و تنظم حياته الآلات. لا وقت لديه ، ولا اهتمام، بأن يرتبط أو يتزوج، ولا وقت لديه ليرى والديه وشقيقته رغم حبه لهم. معزولاً خلف زجاج سيارته يطالع الملايين المكدسين في وسائل النقل العام المنهارة غير الآدمية والهائمين في شوارع القاهرة الملوثة التي لم يعد صحياً المشي فيها دون فلتر منقٍ للهواء، يضغط على الأوتوبيلوت لتنطلق العربة المتصلة بالأقمار الصناعية إلى هدفها في قاهرة أكثر قبحاً وزحاماً وتلوثاً وفقراً وعزلاً طبقياً مما يمكن تخيله.


يحيا نصار في فقاعة معزولة عن القبح الخارجي، يحارب ليظل قادراً على تحمل ضغوط العمل الدؤوب من أجل الترقي وضغوط الحياة في تلك المدينة. لكن عالمه يتغير ، وحياته تتغير، ومفاهيمه تتغير شيئاً فشيئاً عندما يتعرف صدفة على غريب - اسم على مسمى بالنسبة له- ، وهو مصور فوتوغرافي غامض لا يتعامل مع منجزات العصر التكنولوجية ويبدو غير مبالٍ بالنجاح المادي بالصورة التي يفهمهما نصار. على مدار الرواية تتعقد الأمور لنصار: فرغم اصراره على النجاح المادي، إلا أنه لتربية والديه الصارمة أخلاقياً له، يرفض الفساد في العمل. يُواجه بعرض من النوع الذي لا يمكن رفضه، إما أن يقبله ويحقق القفزة التي يطمح لها، وإما أن يرفض فتنهار شركته. مشكلته كانت أن العرض كان مريباً، مما يجعله في مواجهة أزمة أخلاقية حادة. يزيد غريب من الضغوط عليه: بأسلوب حياته يهز قناعاته عن الحياة المثلى، ينتقد الحياة المخملية المعزولة التي تحياها الطبقة العليا التي يحلم نصار باللحاق بها، يعرفه على العالم خارج فقاعته، يجعله يرى ويسمع للمرة الأولى من كان يطالعهم من خلف زجاج سيارته. عندما يطالع نصار المرآة يطالعه وجه حزين متعب.


يتسارع إيقاع الرواية وتزداد الإثارة، ليصبح من الصعب تركها دون إتمامها في الجزء الأخير. يتعقد الخطان المتوازيان: حياة نصار القديمة وصعوبات استمراها بذات الصورة، والعالم الجديد الذي يكتشفه ويتأثر به. بصورة مؤلمة يصل نصار إلى لحظة الإنارة: الإيمان الحقيقي عندما يخرج من دائرة ذاته، عندما يتخلى عن الفردانية، ويتخفف من وهم المادة، الترقي ، الغنى، الإيمان المطلق بالعقل والتقنية والمنطق البارد.


يعيب الرواية طفوليةٌ في وصف اختراعات المستقبل - بصورة قد تذكر بملف المستقبل- ، وأن الدقة النحوية والجزالة الاسلوبية ليستا أفضل مميزات الرواية ، وبعض اللجوء إلى الكليشيهات، وطول الحوارات بصورة قد تبعث على الملل، إلا أن محتوى الحوارات الهام يعوض عن ذلك.


في حفل توقيع الرواية بالكتب خان، تحدث المؤلف عن ردود الأفعال التي أثارتها الرواية، وعمن راسلوه قائلين له أنهم يفكرون بنفس الطريقة، وأنهم يشعرون بالقلق ذاته في ذات اللحظة الراهنة الفارقة. مست الرواية وتراً لدى من شعروا بأن حياتهم مقاربة لحياة البطل وينتمون لنفس طبقته الوسطى العليا. هم مهنيون أو رجال أعمال ناجحون يحيون حياة لا بأس بها أبداً، لكنهم يشعرون بخوف كبير من الغد. يحسون أن الحياة التي يحيونها لن تستمر بذات الطريقة، والمستقبل لا يحمل سوى احتمالات مرعبة. "الحل الفردي" الذي اختاروه لم يعد ممكناً، فالفساد يجبرك على أن تخضع له ليشوه حلك الفردي مهما حاولت الانعزال، فضلاً عن أن المستقبل يحمل نذر زلزال لا يترك أحداً. تحدث المؤلف عن هجرة كثيرين يعرفهم رغم ظروف حياتهم الرغدة، لكنهم هاجروا لأنهم يشعرون بأن الحياة القديمة لن تستمر، وأن البلد تقف على شفا حفرة. المعارضة الحالية غير مقنعة، الانعزال والحلول الفردية لم تعد نافعة في مركب يغرق، الهجرة ليست أفضل الحلول. يحاول عثمان أن يقدم تصوره لما يمكن أن يكون عليه الحل في روايته التي يهديها إلى: " كل مواطن يؤمن بأن التغيير لا يزال ممكناً".



تعرض الرواية لحياة ومخاوف وتطلعات الطبقة الوسطى العليا حالياً- وإن اختار المؤلف المستقبل ساحة لروايته- لكنها ليست رواية طبقية بالمعنى السلبي. في حوارات مطولة يهاجم المؤلف ويحطم الحجج والأساطير والمحفوظات المسكنة والمريحة للأعصاب والضمائر المنتشرة في طبقة البطل - وطبقات أخرى-. ينتقد تأليه العمل والنجاح المادي، استغلال العمالة والحديث عن فتح البيوت، تحليل الرشوة...الخ، يحلل ويشرح ويعلن رفضه. يدافع بقوة عن الديموقراطية وعن حق المصريين في حياة كريمة ، بكرامة، مهاجماً الاحتجاجات النيوليبرالية والعنصرية الثقافية.



عندما بدأ المؤلف في الحديث عن تجربته مع الكتابة اتضح لي البعد الشخصي القوي في الرواية. حكى المؤلف عن إدمان للقراءة منذ الطفولة، عن غرام بالأدب، وحلم بالكتابة، وإن كان لا يعرف ماذا يكتب. حكى عن عمله مهندساً وعن المشاريع المختلفة التي عمل بها، وعن حرصه المستمر على أن يحاول أن يكون إلى جانب توجه عمله للربح، جانب لمساعدة الفقراء أو للصالح العام. حكى عن أنه في أغلب الأوقات فشل في تحقيق تلك المعادلة، وعن أنه باستمرار عمله بالهندسة اكتشف أن هناك مشكلة ما أساسية تمنع وتُفشِل باستمرار تلك المحاولات الصغيرة. حكى عن انشغاله بالعمل عن الكتابة ، وأنه كتب نسخة مصغرة من هذه الرواية في أوائل التسعينات ليكتشف أن الكثير مما توقع حدوثه بسوداوية قد تحقق بالفعل مما دفعه إلى التساؤل عن جدوى الكتابة. في فترة انتقالية بين وظيفتين تحقق له أخيراً فائض من الوقت، فجلس وكتب قصصاً قصيرة، كانت إحداها تنويعاً على هذه الرواية، مما دفعه إلى العودة إلى الاوراق القديمة وكتابة النسخة الحالية من الرواية. من سماعي هذه التجربة أدركت أن الرواية جاءت حكياً موازياً لتجربته الحياتية ولقناعاته التي تكونت ، ولبحثه عن المعنى وعن الصواب، رسالة للناس، وفي الوقت ذاته هي ذاتها الإجابة عن سؤال لماذا أكتب، بحثاً وجودياً مهموماً بالأخلاقية.



عندما انتهيت من قراءة الرواية، شاهدت في اليوم ذاته فيلم جنينة الأسماك. جعلني العملان أدرك أنني لست وحيداً في شعوري بالخوف، وفي أن هناك شيئاً ما سينهار وسيأتي شيئ ما بشع فوق ما نتصور، ونحن لا نملك سوى انتظاره في عجز. يحاول محمود عثمان في الجزء الأول من روايته ذات الجزئين، أن يقول أن هناك شيئاً ما يمكن عمله، رغم كل هذا الخوف.

الجمعة، أبريل ٢٥، ٢٠٠٨

سؤال عن الكلابشات...




بعد نشر جريدة البديل صوراً لمصابين في أحداث المحلة قيدهم الأمن إلى أسرة المستشفيات، ثارت ضجة كبيرة، وقدمت نقابة الاطباء المصرية بلاغاً للنائب العام يتضمن معلومات عن الأضرار الصحية المصاحبة لمثل هذا التقييد والتي قد تؤدي للوفاة. واتهمت منظمات حقوقية وزارة الداخلية والصحة بمخالفة الدستور، وأمر النائب العام بالتحقيق في الواقعة.

كنت متعجباً جداً، لا من قسوة الأمن ووحشيته في تعامله مع مصابي المحلة بالذات، ولكن من تعجب الكل في التعامل مع هذا الخبر. أتذكر أنني في فترات التدريب الاكلينيكي أثناء دراستي بكلية الطب، حيث كنا نتدرب في عنابر المستشفى الجامعي (الميري)، شاهدت عدة مرات مرضىً مقيدين في أسرتهم. عندما سألت من هم أكبر مني، أفهموني أنهم مسجونون يعالجون في المستشفى. لذلك ترسخ في ذهني أنها معلومة يعرفها كل الأطباء. لم أر ذلك المنظر منذ تخرجي من الكلية، ربما لأنني لم أتعامل مع المستشفى الميري من ساعتها. لم أتعجب من تعامل الصحافة أو المنظمات الحقوقية مع الخبر، ولكن من تعامل النقابة معه. حيث بدا لي أنها تتعمد تلبيس القضية بعداً سياسياً عن عمد وحصره بأحداث المحلة ، أو أنها لا تعرف وهو ما أستبعده.

يختلف أسلوب الاحتجاج على ما حدث، إذا ما كان قد حدث حادثة معزولة لقسوة مفرطة من الشرطة في امتداد لتعامل قاس ٍ مع مدينة غاضبة، أو كان سياسة عامة لم تنل الاهتمام إلا عندما احتكت بالسياسة.

زيادة في التأكد (إذ ربما كانت الحالات التي شاهدتها منذ سنوات عندما كنت طالبا في الكلية حالات معزولة) أوجه سؤالاً إلى الزملاء من طلبة و خريجي كليات الطب المصرية: هل شاهدتم هذا الإجراء من قبل؟ وإن كنتم قد شاهدتموه ، فكم مرة؟ وهل كان الإجراء يتم في الظروف الاستثنائية فقط - متهمون سياسيون مثلا- أم لمتهمين جنائيين تقليديين؟

الصورة من مصطفى.

الأحد، أبريل ٢٠، ٢٠٠٨

صمت

كانا يجلسان عندما جاء الصمت. جلس هو، وجلست هي، وبينهما جلس. انكمش في مقعده مائلاً بجسده اقصى اليمين، بينما انكمشت في مقعدها مائلة بجسدها أقصى اليسار. ثَبَّت نظره إلى الامام، وثبتت نظرها إلى الامام. انشغل بالتفكير في أفضل توصيف للصمت الجالس بينهما. بتركيز كبير، استعرض أوصافاً كالسحابة السوداء التي تغطي القاهرة، ضباباً يملأ الأجواء، شبورة على الطريق الزراعي في السادسة صباحاً من يوم بارد، ثقلاً جاثماً على صدر مريض بفشل في القلب، بحراً مظلماً تغوص فيه. لم يصل لتوصيف مناسب، فهز رأسه في أسى. بطرف عينيه شاهدها تتطلع إليه في يأس . أدارت راسها وتطلعت إلى الأمام من جديد بعد أن بادلها الصمت النظرات. تمتم بكلمات غير مسموعة وغادر المكان وهو يهز رأسه فيما حاول أن يكون تحية.

أمسك بالهاتف ، وطلب رقمها، وانتظر حتى قالت له : مساء الخير. رد تحيتها. ثم دخل الصمت على الخط. عجزا عن الكلام. لدقائق ظلا صامتين ممسكين بالهاتف. حاجز؟ حائط؟ جدار؟ سد؟ فكر في الكلمة المناسبة، لكن أياً من التشبيهات لم يرضه. بعد دقائق طويلة من الصمت، تمتم: مع السلامة، ووضع السماعة.


محاطين بأشخاص كثيرين. يضحك ويتكلم ، لكنه يشعر أن شيئاً ما خطأ. يتطلع حوله باحثاً عن الصمت. لا يجده. يغمض عينيه ويتطلع داخله ، ليكتشف أن الصمت قد سكن داخله. يظل صامتا مهما تكلم. يطالعه صديق ويسأله: مالك؟ يتعجب من أن الصمت يكشف نفسه لعيون الآخرين. يهز يده في حركة بلا معنى، ويتمتم بإجابة بلا معنى.

لاحقاً ، سيتكلمان كثيرا، لكن كلا منهما كان يعرف أن الصمت لم يغادر. سيفكر أن الصمت ضيف قد جاء ليبقى. سيستريح أخيرا لهذا التوصيف، وسيتبادل هز الرؤوس مع الضيف الذي أصبح صاحب بيت.