‏إظهار الرسائل ذات التسميات عروض كتب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عروض كتب. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، يناير ٢٧، ٢٠٠٩

فيصل .... تحرير: أيام الديسك والميكروباص


فيصل .... تحرير: أيام الديسك والميكروباص – حمدي عبد الرحيم – مكتبة مدبولي

يضم الكتاب يوميات المؤلف في النصف الأول من عام 2007، إذ يحكي عن عمله في ديسك ثلاث جرائد ( نهضة مصر، العالم اليوم، الكرامة) وذهابه وعودته من عمله مستقلاً ميكروباص خط فيصل تحرير. يبدأ الكتاب بتقديم، ثم تأريخ لصعود – دون هبوط- الميكروباص : عندما رفعت الحكومة يدها عن قطاع النقل ، تاركة خدمات النقل تنهار ليملأ القطاع الخاص -ممثلاً في الميكروباص - الفراغ الناتج . منذ ذلك اليوم الذي وقف فيه ميكروباص وحيد في ميدان التحرير ، يجمع في خجل – تلاشى سريعاً- الركاب، انتهاء بقضائه النهائي على المنافسين. يقدم المؤلف بعدها قائمة بالمصطلحات التي سيستخدمها لاحقاً في الكتاب، إذ يقدم قوائم بأنواع السائقين والركاب والديسكاوية. وهي مصطلحات ساخرة ، لكنها مضبوطة يكفي ذكرها لاحقًا لترى أمامك الشخص المذكور متجسدًا بكل صفاته. فمن السائق السني – بشرائط أبو إسحق واللحية والجلباب الأبيض- إلى المتطرف – الذي لا ترغب أبداً في الدخول في مشاجرة معه- إلى الدجاجي – وهو ليس جباناً كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كالدجاج يجلب الخراء بقدميه- مروراً بالمعاشي والروش....إلخ، والركاب إما ذاهلون أو عاديون أو ثقلاء...إلخ.

يشرع المؤلف بعدها في قص يومياته الموزعة بين الديسك والميكروباص. الديسك " هو المطبخ الصحفي حيث يجري إعداد المواد الصحفية للنشر". يكشف المؤلف عن خبايا هذا المطبخ الصحفي، الذي أصبح العمل فيه يتجاوز إصلاح خطأ إملائي أو نحوي هنا وهناك، أو إعداد مقدمة موضوع، ليصل – في أحيان كثيرة- لإعادة بناء لركاكة ورثاثة مذهلة، بل وحتى فك رموز ما يكشف عن عجز الكاتب عن التعبير المنطقي عن الأفكار وما قد يقارب حدود الثغاء أو سلطة الكلمات. نقرأ عمن يعتقد أن العزوف معناه العزم، وأن بعض تعني بعد، ومن يتحدث عن شروط الالتحاق ب"السيرك" الدبلوماسي، ومن كتبت " كان المتهم يبكي فقال له الضابط هذا وتعود وقائع الجريمة إلى وكان فريق من الأمن بقيادة اللواء قد حاصر المتهم"....إلخ.

أما يوميات الميكروباص، فهي الجزء الأكثر جذباً والأكثر مسخرة! ستتذكر ربما تاكسي الخميسي ، حيث الكتاب محاولة – بورجوازية من كرسي الراكب، لكنها حقيقية - لفهم ذلك الكائن – سائق التاكسي- والاستماع إليه وتقديم حكايات عديدة عنه ، وبلسانه، في كتاب سهل وجذاب. أما كتاب عبد الرحيم ، فهو وصف لمن عايشهم المؤلف من ركاب وسائقين من فيصل إلى التحرير وبالعكس. فردية وسيلة مواصلات كالتاكسي، يقابلها الميكروباص كفضاء اجتماعي يتقاسمه مجموعة من البشر لفترة من الوقت. نرى في اليوميات أمثلة على الصراع على المجال العام، واختراق المجال الخاص، وتنوع القيم الحاكمة والمرجعيات التي يلجأ إليها الأشخاص لفض الخلاف أو لحسمه، والاختلافات في طرق التعامل والطباع بين الأشخاص – وفي أحيان أخرى بين الطبقات أو الأجيال- . نرى طيبة وبلطجة، وقاحة وتهذيباً، تضامنًا وسفالة.

يقدم الكتاب صورة لمصر من الميكروباص في 2007، مستخدمًا حكايات جذابة ومسلية ومضحكة أحياناً، وباعثة على التأمل أحياناً أخرى، يعجز أي أسلوب أدبي غير اليوميات عن تقديمها. وهكذا نقابل مشاجرات الركاب مع السائق الأرعن، أو حل الركاب لمشاكل زوجين متخاصمين، أو مشاركتهم في عزاء أو تطييب خاطر. نقابل وصلات السباب بين السائق والتباع، وصلات الرقص والغناء الخارج ، والكلام الفضائحي عن أدق التفاصيل الشخصية. نستمع إلى مناقشات سياسية ، وأخرى عن الكرة، وغيرها تبحث عن حل لمشكلة مصر. نتلصص أحيانًا على حوار شخصي.، وأحياناً نرسم صورة عن حياة راكب ، مكملين القدر القليل الذي وصلنا منها بينما يتحدث في هاتفه المحمول. نقابل من يتحدث بحكمة وليدة السنين، ومن رأسه في خواء الربع الخالي.

يقول المؤلف أن الجامع بين اختياره للديسك والميكروباص ليجعلهما محور يومياته هو العشوائية التي طبعتهما بطبعها، لكنني أرى أن الجامع الرئيسي بينهما هو أنهما يشغلان الجزء الأكبر من حياة المؤلف نفسه ، حياة مصري يناضل ليعيش في مصر 2007. يمضي المؤلف معظم ساعات يومه في عمل مرهق لا يحتمل – ككثير من المصريين- مع الديسك ومساخره و "مجعزاته" ، أو معذبًا بقراءة أخبار وتحقيقات مروعة عن مصر والفساد والتلوث والديكتاتورية – تدور الأحداث في مطلع 2007 ، حيث تم تعديل الدستور ليصبح في إمكان السلطات التعامل مع أي مواطن كإرهابي بلا حقوق- والبحث عن أمل حيث لا نقطة نور تبدو في الأفق، أو – ككثير من المصريين أيضًا- معذبًا في رحلة الذهاب إلى ذلك العمل والعودة منه. لكنه يتعزى بقراءة كتاب، أو بلقاء صديق، أو بانتقام صغير يدبره لمسؤول حكومي منافق، أوبموقف يثبت له أن "الدنيا لسه بخير"، أوبابتسامة طفل نائم في حضن والده.

وبالمثل، كان كتاب حمدي أحد عوامل التعزية.....على الأقل بالنسبة لي.

الأحد، أبريل ٢٧، ٢٠٠٨

ثورة 2053 - البداية


رواية - محمود عثمان - الطبعة الاولى ديسمبر 2007 - ب.ن.




تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب ( العام 2026) على صورة مذكرات لبطلها المهندس الشاب محمد نصار. تبدو الرواية للوهلة الأولى Dystopia (يوتوبيا معكوسة) مسقبلية تقليدية تتخيل المجتمع المصري بمفرداته الحالية في صورة ممسوخة كابوسية تضخمت فيها العيوب، مع مفردات تقدم تكنولوجي مذهل، لكن الرواية تحمل أكثر من ذلك بكثير، فضلاً عن أن بها من اللحظة الراهنة أكثر بكثير مما بها من المستقبل.




نتعرف على حياة البطل محمد نصار. هو مهندس شاب ناجح ومجتهد صاحب شركة تصمم أنظمة الكترونية متقدمة، ينتمي للطبقة الوسطى العليا، في مجتمع لم يعد به سوى طبقة عليا وأغلبية تحيا في ظروف غير آدمية فيما تصارع الطبقة الوسطى العليا من أجل البقاء واللحاق بالطبقة العليا، وهو حلم المهندس محمد نصار مدمن العمل الذي يصارع لتصبح شركته شركة كبرى. يحيا حياة باردة وحيدة ليس بها سوى العمل، و تنظم حياته الآلات. لا وقت لديه ، ولا اهتمام، بأن يرتبط أو يتزوج، ولا وقت لديه ليرى والديه وشقيقته رغم حبه لهم. معزولاً خلف زجاج سيارته يطالع الملايين المكدسين في وسائل النقل العام المنهارة غير الآدمية والهائمين في شوارع القاهرة الملوثة التي لم يعد صحياً المشي فيها دون فلتر منقٍ للهواء، يضغط على الأوتوبيلوت لتنطلق العربة المتصلة بالأقمار الصناعية إلى هدفها في قاهرة أكثر قبحاً وزحاماً وتلوثاً وفقراً وعزلاً طبقياً مما يمكن تخيله.


يحيا نصار في فقاعة معزولة عن القبح الخارجي، يحارب ليظل قادراً على تحمل ضغوط العمل الدؤوب من أجل الترقي وضغوط الحياة في تلك المدينة. لكن عالمه يتغير ، وحياته تتغير، ومفاهيمه تتغير شيئاً فشيئاً عندما يتعرف صدفة على غريب - اسم على مسمى بالنسبة له- ، وهو مصور فوتوغرافي غامض لا يتعامل مع منجزات العصر التكنولوجية ويبدو غير مبالٍ بالنجاح المادي بالصورة التي يفهمهما نصار. على مدار الرواية تتعقد الأمور لنصار: فرغم اصراره على النجاح المادي، إلا أنه لتربية والديه الصارمة أخلاقياً له، يرفض الفساد في العمل. يُواجه بعرض من النوع الذي لا يمكن رفضه، إما أن يقبله ويحقق القفزة التي يطمح لها، وإما أن يرفض فتنهار شركته. مشكلته كانت أن العرض كان مريباً، مما يجعله في مواجهة أزمة أخلاقية حادة. يزيد غريب من الضغوط عليه: بأسلوب حياته يهز قناعاته عن الحياة المثلى، ينتقد الحياة المخملية المعزولة التي تحياها الطبقة العليا التي يحلم نصار باللحاق بها، يعرفه على العالم خارج فقاعته، يجعله يرى ويسمع للمرة الأولى من كان يطالعهم من خلف زجاج سيارته. عندما يطالع نصار المرآة يطالعه وجه حزين متعب.


يتسارع إيقاع الرواية وتزداد الإثارة، ليصبح من الصعب تركها دون إتمامها في الجزء الأخير. يتعقد الخطان المتوازيان: حياة نصار القديمة وصعوبات استمراها بذات الصورة، والعالم الجديد الذي يكتشفه ويتأثر به. بصورة مؤلمة يصل نصار إلى لحظة الإنارة: الإيمان الحقيقي عندما يخرج من دائرة ذاته، عندما يتخلى عن الفردانية، ويتخفف من وهم المادة، الترقي ، الغنى، الإيمان المطلق بالعقل والتقنية والمنطق البارد.


يعيب الرواية طفوليةٌ في وصف اختراعات المستقبل - بصورة قد تذكر بملف المستقبل- ، وأن الدقة النحوية والجزالة الاسلوبية ليستا أفضل مميزات الرواية ، وبعض اللجوء إلى الكليشيهات، وطول الحوارات بصورة قد تبعث على الملل، إلا أن محتوى الحوارات الهام يعوض عن ذلك.


في حفل توقيع الرواية بالكتب خان، تحدث المؤلف عن ردود الأفعال التي أثارتها الرواية، وعمن راسلوه قائلين له أنهم يفكرون بنفس الطريقة، وأنهم يشعرون بالقلق ذاته في ذات اللحظة الراهنة الفارقة. مست الرواية وتراً لدى من شعروا بأن حياتهم مقاربة لحياة البطل وينتمون لنفس طبقته الوسطى العليا. هم مهنيون أو رجال أعمال ناجحون يحيون حياة لا بأس بها أبداً، لكنهم يشعرون بخوف كبير من الغد. يحسون أن الحياة التي يحيونها لن تستمر بذات الطريقة، والمستقبل لا يحمل سوى احتمالات مرعبة. "الحل الفردي" الذي اختاروه لم يعد ممكناً، فالفساد يجبرك على أن تخضع له ليشوه حلك الفردي مهما حاولت الانعزال، فضلاً عن أن المستقبل يحمل نذر زلزال لا يترك أحداً. تحدث المؤلف عن هجرة كثيرين يعرفهم رغم ظروف حياتهم الرغدة، لكنهم هاجروا لأنهم يشعرون بأن الحياة القديمة لن تستمر، وأن البلد تقف على شفا حفرة. المعارضة الحالية غير مقنعة، الانعزال والحلول الفردية لم تعد نافعة في مركب يغرق، الهجرة ليست أفضل الحلول. يحاول عثمان أن يقدم تصوره لما يمكن أن يكون عليه الحل في روايته التي يهديها إلى: " كل مواطن يؤمن بأن التغيير لا يزال ممكناً".



تعرض الرواية لحياة ومخاوف وتطلعات الطبقة الوسطى العليا حالياً- وإن اختار المؤلف المستقبل ساحة لروايته- لكنها ليست رواية طبقية بالمعنى السلبي. في حوارات مطولة يهاجم المؤلف ويحطم الحجج والأساطير والمحفوظات المسكنة والمريحة للأعصاب والضمائر المنتشرة في طبقة البطل - وطبقات أخرى-. ينتقد تأليه العمل والنجاح المادي، استغلال العمالة والحديث عن فتح البيوت، تحليل الرشوة...الخ، يحلل ويشرح ويعلن رفضه. يدافع بقوة عن الديموقراطية وعن حق المصريين في حياة كريمة ، بكرامة، مهاجماً الاحتجاجات النيوليبرالية والعنصرية الثقافية.



عندما بدأ المؤلف في الحديث عن تجربته مع الكتابة اتضح لي البعد الشخصي القوي في الرواية. حكى المؤلف عن إدمان للقراءة منذ الطفولة، عن غرام بالأدب، وحلم بالكتابة، وإن كان لا يعرف ماذا يكتب. حكى عن عمله مهندساً وعن المشاريع المختلفة التي عمل بها، وعن حرصه المستمر على أن يحاول أن يكون إلى جانب توجه عمله للربح، جانب لمساعدة الفقراء أو للصالح العام. حكى عن أنه في أغلب الأوقات فشل في تحقيق تلك المعادلة، وعن أنه باستمرار عمله بالهندسة اكتشف أن هناك مشكلة ما أساسية تمنع وتُفشِل باستمرار تلك المحاولات الصغيرة. حكى عن انشغاله بالعمل عن الكتابة ، وأنه كتب نسخة مصغرة من هذه الرواية في أوائل التسعينات ليكتشف أن الكثير مما توقع حدوثه بسوداوية قد تحقق بالفعل مما دفعه إلى التساؤل عن جدوى الكتابة. في فترة انتقالية بين وظيفتين تحقق له أخيراً فائض من الوقت، فجلس وكتب قصصاً قصيرة، كانت إحداها تنويعاً على هذه الرواية، مما دفعه إلى العودة إلى الاوراق القديمة وكتابة النسخة الحالية من الرواية. من سماعي هذه التجربة أدركت أن الرواية جاءت حكياً موازياً لتجربته الحياتية ولقناعاته التي تكونت ، ولبحثه عن المعنى وعن الصواب، رسالة للناس، وفي الوقت ذاته هي ذاتها الإجابة عن سؤال لماذا أكتب، بحثاً وجودياً مهموماً بالأخلاقية.



عندما انتهيت من قراءة الرواية، شاهدت في اليوم ذاته فيلم جنينة الأسماك. جعلني العملان أدرك أنني لست وحيداً في شعوري بالخوف، وفي أن هناك شيئاً ما سينهار وسيأتي شيئ ما بشع فوق ما نتصور، ونحن لا نملك سوى انتظاره في عجز. يحاول محمود عثمان في الجزء الأول من روايته ذات الجزئين، أن يقول أن هناك شيئاً ما يمكن عمله، رغم كل هذا الخوف.

الاثنين، فبراير ٠٤، ٢٠٠٨

يوتوبيا

يوتوبيا - أحمد خالد توفيق - رواية - ميريت


لا أعتقد أن أحمد خالد توفيق في حاجة إلى تقديم ، فرواياته من إصدرارت روايات مصرية للجيب قرأها الملايين. كانت رواياته جزءً من ثقافة جيل كامل تكفي الإشارة إلى أحد مفرداتها ليتم التفاهم ( أتذكر ليلة طويلة على رصيف شارع عبد الخالق ثروت، في الثالثة فجراً كان الرصيف بارداً جداً وصلباً جداً ومرهقاً جداً، قلت ذلك لمن يجلس بجواري، فابتسم وقال لي أنها ساعة الذئب. ابتسمت له ، بينما تساءل ثالث تجاوز عمره الثلاثين عن معنى ذلك، فقلنا له أنها مصطلحات جيل أصغر). كانت رواياته هي أول مكان قرأت فيه أسماءً مثل كونديرا وكامو وصنع الله إبراهيم وماركيز...الخ. كنت مقتنعاً أنه قادر على أن يكتب أكثر ، وتعزز رأيي بقراءتي لمقالاته المتميزة المنشورة في الدستور أسبوعياً. لذلك كنت سعيداً بصدور أولى رواياته: يوتوبيا.





تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب، حيث ينعزل الأغنياء في مجتمع مسور في الساحل الشمالي اسمه يوتوبيا يحميه المارينز، بينما "الأغيار" يمورون خارجه. لا يهتم المؤلف بالإشارة إلى أسماء قد تشير إلى شخصيات ومجتمعات حالية، وتحمل أولى الصفحات اعتبار أي تشابه مماثل محض مصادفة غير مقصودة، على الرغم من أنه يؤكد إيمانه " يقيناً أن هذا المكان سيكون موجوداً عما قريب".



يقدم المؤلف صورة كابوسية للمستقبل: فسكان يوتوبيا انحطوا إلى ما يشبه الحيوانات الشهوانية. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ( باستثناء أخلاق رأسمالية بالحفاظ على الملكية الفردية لبعضهم). يحيون محاولين استخلاص كل لذة ممكنة من الحياة من الطعام والجنس والمخدرات، معانين من الملل الذي يتغلبون عليه بالتسلي باصطياد الأغيار.


أما الأغيار فيحيون في أطلال مدن مصر القديمة. كل شيئ انهار: لا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي. عالم بلا قانون ولا دولة، عصابات مخدرة بمخدرات رديئة تتصارع كالضباع للبقاء على قيد الحياة. سوقية وجنس ووحشية وجريمة. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ولا دين فكل هذا يعد ترفاً.

ذكرني هذا بآلة الزمن وثنائية الإيلوي الخانعين الضعفاء فوق الأرض، والمورلوك المتوحشين العاملين تحت الارض. لكن كلاً من الروايتين ابنة عصرها، فرواية ويلز تفكر في مستقبل البشرية في المستقبل البعيد متأثرة بأفكار النشوء والارتقاء والأفكار الاشتراكية ( كان ويلز اشتراكيا فابياً). بينما تفكر يوتوبيا في مستقبل مصر القريب. يمد المؤلف الخط إلى آخره وصولاً إلى القبح المطلق. نجد مظاهر نعرفها وقد توحشت وشملت كل شيئ. المفردات المصرية المألوفة لنا: (الشوارع الغارقة في الصرف الصحي، مجرمو المناطق العشوائية، مدمنو الكلة، الطعام الرديء المغشوش، انهيار الطبقة الوسطى، الشباب متعاطو المخدرات، المجتمعات المسورة - اقرأ عنها دراسة إيريك دينيس في كتاب القاهرة الكوزموبوليتانية- ، الأثرياء المحتكرون المتعاملون مع إسرائيل...الخ ) تتضخم بصورة كابوسية وتبتلع كل شيئ آخر. يتحول الكل - فقراء وأثرياء- إلى كتل من البروتين الحيواني الذي تحركه الغرائز في عالم بلا رحمة.

يروي المؤلف الرواية على لسان بطلين ، أحدهما من سكان يوتوبيا والآخر من الأغيار. تتعاقب فصول الكتاب ليكون كل منهما الراوي الشخص الأول في أحدها. وضع المؤلف كلاً منهما في مقابلة الآخر. كلاهما يقرأ في عالم لا يقرأ، ويعرف أكثر من المحيطين به، قبل أن يدفعهما للقاء بعضهما. بطل الأغيار هو ابن الطبقة الوسطى القديمة الذي لا زال يحتفظ بنقطة مضيئة وسط صدره رغم كل القبح الذي يحيا به. بطل يوتوبيا واقعي جداً ولا يزيده إدراك العالم إلا قسوة. حرص أيضاً على أن يضع كلاً منهما في مواقف متشابهة ليكشف عن تصرفاتهما المتباينة في حبكة متقنة ومثيرة يتيميز بها المؤلف.

الرواية كابوسية لكنها أيضاً قاسية جداً. يصيح بطل الأغيار:


"ثمة شخص جمع الأوغاد والخاملين والأفاقين وفاقدي الهمة من أرجاء الأرض في وطن قومي واحد هو مصر... لهذا لا تجد في ألمانيا وغداً... لهذا لا تجد في الأرجنتين أفاقاً... كلهم هنا يا صاحبي........هأنتم أولاء يا كلاب قد انحدر بكم الحال حتى صرتم تأكلون الكلاب !.. لقد أنذرتكم ألف مرة .. حكيت لكم نظريات مالتوس وجمال حمدان ونبوءات أورويل وهـ .ج. ويلز..لكنكم في كل مرة تنتشون بالحشيش والخمر الرخيصة وتنامون ... الآن أنا أتأرجح بين الحزن على حالكم الذي هو حالي، وبين الشماتة فيكم لأنكم الآن فقط تعرفون .. غضبتي عليكم كغضبة أنبياء العهد القديم على قومهم، فمنهم من راح يهلل ويغني عندما حاصر البابليون مدينته .. لقد شعر بأن اعتبارهقد تم استرداده أخيرًا حتى لو كانت هذه آخر نشوة له .. إنني ألعنكم يا بلهاء .. ألعنكم !"

بينما يقول بطل يوتوبيا:


"يا لقذارتك.. يالقذارتك.. ليس فقرك ذنبنا... ألا تفهمين بعد أنكم تدفعون ثمن حماقتكم وغبائكم وخنوعكم؟... عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية . ثم لم تعد هناك مصالح حكومية.. لم تعد هناك رواتب.. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكراً لهذا هويتم من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع... ما ذنبنا نحن؟.. عندما هب الجميع ثائرين في كل قطر في الأرض، هززتم أنتم رؤسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم.. تدينكم زائف تبررون به ضعفكم... أنتم أقل منا في كل شيئ ... هذه سنة الحياة... يجب أن تقبلوها... لم يعد أحد قادراً على تغيير أي شيئ"



تبقت لدي ملاحظتان عن الرواية أولاها هو تفكير في أن انهيار الدولة الحديثة ومؤسساتها قد يعني حرب الكل على الكل كما يرى هوبز ، وكما شاهدنا في العراق، لكنه ربما أيضاً يعني ظهور بنى تنظيمية أخرى للمجتمعات ، سواء كانت استعادة لبنى تقليدية مفككة أو بنى جديدة تماماً.

الثانية هي اقتباس طويل من حلقة من برنامج مع هيكل:

"شيمون بيريز العتيد رئيس دولة إسرائيل الحالي، وبيقول له إيه؟ بيقول له في صراع قادم في الشرق الأوسط، لأنه بقى في الشرق الأوسط، في العالم العربي وهو ملحوظ وهو لاحظه وهو ينزل بالطائرة فوق القاهرة، لاحظه جدا، لأنه لاحظ أنه في ملاعب غولف كثيرة قوي حوالين القاهرة ما يسمى بالمنتجعات الحديثة، ولاحظ في جبال من الزبالة جنب عشوائيات، وقال له شيمون بيريز بيقول أنه هو يتصور أن إسرائيل، أمل إسرائيل معلق بملاعب الغولف، التعامل مع أصحاب ملاعب الغولف وليس معلق بالزبالة، بمقالب الزبالة بالعشوائيات. وبيقول أنه إيه؟ بيقول حاجة غريبة قوي، بيقول أنه هنا، مع الأسف الشديد، أكره أقول، إن التدين هنا، مش حيجيب كلمة الإسلام، إن التدين هنا نحن لا نستطيع أن نتعامل معه، لكن ملاعب الغولف هنا فيها التكنولوجيا والتكنولوجيا أقدر على فهمنا، الناس العايشين فيه، والتعامل معنا. وأنا قلت، تدخلت وقلت، قلت للورد باتين وده كان كلامي وهو سمعه مني وكلهم سمعوه مني، قلت لهم في هناك في ناس كثير قوي خايفين على مستقبل الطبقة المتوسطة في العالم العربي بيسألوا أين هي، وأنا بأقول الطبقة المتوسطة موجودة وهي تنمو لكنها غيرت مواقعها، إحنا كنا نبص عليها زمان في مواقع الوظائف، وظائف الحكومة، والقضاء، والتدريس والمدرسين أساتذة الجامعة، وإلى آخره الطبقة المتوسطة، لكنها انتقلت، وشيمون بيريز له حق في جزء معين أنها انتقلت من مواقعها إلى مواقع جديدة، ممكن يكون في قربها مواقع غولف، وممكن تكون بتفهم التكنولوجيا، لكن حتى هذه الطبقة المتوسطة أكثر من سوف يدرك حجم المطلوب للأمن القومي العربي وأن تقف هي وتدافع عنه، أظن بمقدار ما تنمو في مصالحها، بمقدار ما تطمئن، بمقدار ما عندها أمن، بمقدار ما عندها ديمقراطية، بمقدار ما عندها مشاركة، أنا أظن أن الطبقة الوسطى العربية والموجودة قرب ملاعب الغوف والفاهمة للتكنولوجيا سوف تعرف صراع التحدي وصراع الحياة الذي يتمثل بالدرجة الأولى في أمن قومي عربي يعرف أهدافه ويعرف كيف يدير صراعاته ويعرف مصادر التهديد التي يمكن يواجهها"

ختاماً، هي - دون شك- رواية تستحق القراءة.

* ملحوظة هامشية: هناك بالفعل، مدينة مسورة في السادس من أكتوبر تحمل اسم يوتوبيا ....

الأحد، فبراير ٠٣، ٢٠٠٨

يوميات حرب لبنان

حالة الحصار - عبد الإله بلقزيز


فواز طرابلسي - عن أمل لا شفاء منه - يوميات حصار بيروت 1982 - رياض الريس للكتب والنشر


عبد الإله بلقزيز - حالة الحصار - شهادات عن الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006- دار الآداب

عن أمل لا شفاء منه - فواز طرابلسي أتيحت لي الفرصة مؤخراً أن أقرأ الكتابين سوياً. توقفت كثيراً لأتأمل التشابهات والاختلافات بين الحربين. ما بدا كقدر لا يتغير، النيران تنهال على المناطق ذاتها، والمهجرون يقصدون الملاجئ ذاتها، أسماء اللاعبين الدائمين، وأولئك الذين اختفوا، من غيروا مواقعهم، ومن أدى دورهم خلفاؤهم.

تشاؤما ويأسا في الكتاب الأول ، وفرحا وفخرا في الكتاب الثاني. وفي الحالتين الغضب.

أفضل يوميات قرأتها من لبنان هي يوميات مدونة " نوادر من جمهورية موز". اضغط هنا لتقرأ - من أسفل الصفحة إلى أعلاها- ما كتبته أثناء حرب العام 2006.

السبت، نوفمبر ١٠، ٢٠٠٧

فيرتيجو



فيرتيجو - أحمد مراد - رواية - ميريت


بعد حوار تليفوني طويل استعدت حماسي للقراءة إثر فترة توقف لانشغال بالعمل. ذهبت للمكتبة واشتريت فيرتيجو التي كنت قد شاهدت لقاءً مع مؤلفها أحمد مراد على مساءك سكر زيادة في OTV . لم أذكر من اللقاء سوى اسم الرواية الطبي اللافت، وأنها العمل الأول لمؤلفها طبيب الأسنان الشاب.( تصحيح : المصور الشاب!)


الرواية جاءت مفاجأة جميلة . لم أقرأ عملاً جيداً مثلها منذ شهور، ربما منذ واحة الغروب والتلصص. ورغم حجمها الكبير نسبيا - 400 صفحة- قرأتها كاملة في ليلة واحدة ، إذ بعد بداية بطيئة لصفحات معدودة، تجذبك الرواية لتجعل من الصعب عليك أن تتوقف عن القراءة.


تدور الرواية عن مصور شاب ( أحمد كمال) يتواجد بكاميرته في المكان والزمان الخاطئين، ليشهد جريمة دموية هي تصفية حسابات بين "الكبار". خط الكشف عن فساد وتلاعب "الكبار" خط رئيسي بالرواية، وهو إن بدا لأول وهلة تكرارًا - فجًا في اختيار الأسماء بعض الاحيان كالحديث عن الداعية عمر حامد والشيخ خالد العسكري والصحفي إبراهيم شافع..الخ- لفضائحية يعقوبيان الأسواني وأشباح ابراهيم عيسى الوطنية، إلا أنها تتجاوز الاكتفاء بالكشف عن المعلوم المسكوت عنه من حكايات الفساد إلى نسج ذلك في حبكة الرواية.


الرواية ليست سياسية بالضبط، أو لنقل ليست فقط سياسية . فهي سياسية تكشف عن وعي سياسي ثاقب للمؤلف، وبوليسية ذات إيقاع لاهث يدفعك للقراءة في أحيان أخرى، ورقيقة في مواضعها الرومانسية،وإنسانية في عرضها للظلم والقهر والقسوة التي تواجه الأبطال، وذات أسلوب ساخر هادئ في معظم المواضع. المؤلف موهوب أيضًا في رسم ملامح الشخصيات -وإن أطنب في وصفه التقديمي لبعضها بصورة تشتت الانتباه- وإن كانت ميزته الرئيسية هي الحوار الذي جاء واقعيًا جدًا يمكنك أن تتخيل الأبطال يرددونه في رأسك - مصحوبا بالمشاعر المناسبة بالطبع- بينما تقرؤه ( صدام أحمد مع جودة مثلاً).



لا أتذكر ملاحظات سلبية لي عن الرواية سوى قلقي في بداية القراءة من أن تكون مجرد رواية فضائحية أخرى ، وهو ما تبدد لاحقًا، و موضع بدا فيه اختلاط في شخص الراوي وبدا أن المؤلف يتحدث شخصيا ويعلق ويدلي بآرائه لكنه عاد لدور الراوي كلي المعرفة في بقية الرواية، وبعض المواضع التي استخدم فيها المؤلف الضمائر بكثافة بما يجعل التعرف على أي "هو" مقصود أمرًا صعبًا، كما أن الدقة النحوية والإملائية والجزالة اللغوية ليسوا بالضبط أفضل مميزات الرواية.


يستحق المؤلف التهنئة لنجاحه في أن يكون عمله الأول على هذه الدرجة من التميز، وللجهد المبذول في رسم شخصيات مركبة تعلق بالذهن، وللحوار الواقعي، وللحبكة المتقنة المثيرة، ولمعرفته بالتفاصيل الفنية لعوالم الأبطال وما يقومون به، وأيضًا للنهاية السعيدة -نوعًا ما- التي تكشف عن نزوع للتفاؤل رغم ما كل ما يدعو إلى التشاؤم.




يعني ببساطة يا اخوان: اقرؤوا فيرتيجو، إن لم تكونوا قد قرأتموها بالفعل...

الجمعة، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٧

التلصص



صنع الله إبراهيم - رواية - دار المستقبل العربي

هذا عمل جميل.
من أجمل ما قرأت لصنع الله إبراهيم.... ربما لأنه لم يكتب رواية تحوي شقا تأريخيا لأحداث سياسية كعادته، بل رواية/ رواية إن أمكننا القول؟ وربما لأنه كان يروي بصورة ما قصة طفولته؟

في القصة طفل يعيش مع والد عجوز أنجبه على كبر من زوجته الثانية صغيرة السن. للطفل أخ كبير متزوج قاطع والده لأنه تزوج شابة صغيرة أثناء مرض موت والدته، وأخت متزوجة.

تدور الأحداث في العام 48 وفي الخلفية حرب فلسطين واضرابات للممرضين وضباط الشرطة. فساد الملك وتفجيرات الإخوان واعتقالات الشيوعيين.

يعيش الطفل مع والده وحيدين حياة فقيرة معتمدين على معاش الأب في حجرة مؤجرة متشاركين الشقة مع مؤجرين آخرين.

تتعاطف فورا مع احتياج كل منهما للمرأة.

يفتقد الطفل حنان الأم ، ويفتقد الأب المرأة التي تؤنس وحشته وتقوم بدلا منه بالمهام المنزلية التي يقوم بهما دون نجاح كبير.

يحاول الأب مرات أن يتزوج أو أن يحصل على خادمة جيدة ولكن جهوده تتعثر.

يحاول الطفل أن يجد بديلا في ساكنة الحجرة المجاورة ويناديها "ماما تحية" ولكنها تغادر.

للطفل هواية طفولية تقليدية هي التلصص. يتسلل إلى الغرف الخالية ليطالع محتوياتها ويقلب محتويات الأدراج ويلصق عينيه وأذنيه بثقب المفتاح ، ويكتشف من خلال ذلك التفاصيل المرتبطة بالشخصيات الأخرى.


يتذكر الطفل أحداثا قديمة كتبت بخط سميك. في كل لحظة بؤس ووحدة وافتقاد للأم ، يتذكر الطفل لحظات السعادة القليلة في ذكرياته عن أوقات أسرته المثالية. وشيئا فشيئا نكتشف عبر الذكريات كيف انتهت به الأمور هو ووالده إلى الوحدة.

استخدم صنع الله في أعمال سابقة هذا التكنيك ، ومنها عمله الأول تلك الرائحة. والذي ضم رواية قصيرة بنفس العنوان تلته مجموعة من القصص القصيرة. لكن ليست هذه هي الصلة الوحيدة بين عمليه الأول والأخير .

في رواية تلك الرائحة وبعض القصص القصيرة التي تلتها ، وفي كتاب يوميات الواحات ، ما يبدو لي كقطع بازل وضعها صنع الله في مكانها أخيرا بقصه قصة طفولته كاملة - مع تعديل روائي بالطبع- في التلصص. في تلك الرائحة نرى اليساري الشاب الخارج من المعتقل بعد اصطدام ناصر مع الشيوعيين ثم إفراجه عنهم، نراه يعيش وحيدا ، ونرى علاقاته المتوترة مع أخت غير شقيقة ونرى جدة له من جهة والدته لا تكاد تذكره .

وفي القصص القصيرة قصة عن أب يعيش وحيدا مع طفلين ويستيقظ ليختبأ معهما في السندرة حتى تنتهي الغارة. وهذا المشهد موجود بالضبط مع تعديل بسيط في الرواية: مشهد غارة أثناء حرب 48. وهناك قصة قصيرة أخرى عن ذهابه لمحكمة شرعية حيث يقابل جدته ووالدته التي تتجاهله ويعود لوالده الذي يسأله عن والدته متلهف

في مقدمة يوميات الواحات ( وهي اليوميات التي كتبها أثناء تواجده في معتقل الواحات أوائل الستينات بتهمة الانضمام لتنظيم يساري) يمر مرورا سريعا على طفولته بذكره -دون تفاصيل- معيشته مع والده هو وشقيقته الصغرى ووصفه لشخصية والده، إضافة لجزء من رسالة لشقيقته في وسط اليوميات تحدثه عن أنها تعرف كيف تعب والده لكي يحتفظ بهما ، وجملة وسط اليوميات عن تذكره جو منزل "ماما تحية"، إضافة إلى حضور ضبابي لشخص باسم "خليل بيه" بين الوجود الحقيقي وبين كونه شخصية في عمل أدبي.

تستطيع أن تضع قطع الأحجية هذه في مكانها بعد قراءة الرواية.

لا يمكنك إلا أن تتعاطف مع وحشة الأب. إهانة الفقر. حب الأب لابنه. تعلق الطفل بأبيه وارتباط كل عالمه به. معاملة قاسية خفية من الأخت لأخيها غير الشقيق.

أثناء القراءة، كثيرا ما توقفت لأن المشاعر القوية التي تبعثها الرواية تغلبت علي - كمشهد إخبار الأب لصديقه عن مشاعره تجاه طفله وزوجته والدة الطفل، بينما الطفل متظاهر بالنوم- ولأمنح نفسي فرصة للتفكير في نفسي وعن الطفولة والوحدة.

أدرك أنني افترضت تطابقا بين طفل التلصص وبين الطفل صنع الله ، وهو غير منطقي لأنها عمل روائي، ولكن لأن الإشارات المتناثرة تشير إلى تجربة واحدة استقى الكاتب منها أول وآخر عمل له ،و لوضوح رسمه لصورة الأب على صورة والده *، أفترض أن صنع الله قدم صورة لطفولته مع بعض التعديلات الروائية. قد يكون مدى تلك التعديلات كبيرا وقد يكون قليلا. لا يمكنني أن أعرف، ولكنني لم أتمكن من تجاهل شعوري بالصدق أثناء قراءتي الرواية.

ربما لم يرسم صنع الله والده -الافتراضي- في صورة الأب المحتفظة بقدسيتها مخفيا لحظات ضعفه، ولكن ذلك جعل والده أكثر انسانية ، وكان آخر ما قاله هو أنه رغم كل ما حدث فهو يحب والده.

شعرت بالحزن وأنا أقول لصديق أنني أشعر أن هذا هو عمل صنع الله الأخير ، وأنه قد أغلق الدائرة التي وضع نقطتها الأولى في أول اعماله، وأنه قال ما لديه. قال صنع الله في لقاء صحفي قديم أنه أراد أن يكتب كل ما يعرف في روايته شرف - ذات المحتوى السياسي التوثيقي الكبير- لأنه كان مريضا وقت كتابتها وخشي أن يموت قبل أن يقول ما لديه، أعتقد أن هذا ينطبق أكثر على التلصص.

يمكن أن تكون هذه الرواية فيلما جميلا....

* في مقدمة كتابه يوميات الواحات ، يحكي صنع الله عن والده وصفاته التي تأثر ببعضها وتمرد على بعضها في سياق قصه للأسباب التي دفعت به إلى معتقل الواحات
مصدر الصورة