الجمعة، أغسطس ٢٤، ٢٠٠٧

التلصص



صنع الله إبراهيم - رواية - دار المستقبل العربي

هذا عمل جميل.
من أجمل ما قرأت لصنع الله إبراهيم.... ربما لأنه لم يكتب رواية تحوي شقا تأريخيا لأحداث سياسية كعادته، بل رواية/ رواية إن أمكننا القول؟ وربما لأنه كان يروي بصورة ما قصة طفولته؟

في القصة طفل يعيش مع والد عجوز أنجبه على كبر من زوجته الثانية صغيرة السن. للطفل أخ كبير متزوج قاطع والده لأنه تزوج شابة صغيرة أثناء مرض موت والدته، وأخت متزوجة.

تدور الأحداث في العام 48 وفي الخلفية حرب فلسطين واضرابات للممرضين وضباط الشرطة. فساد الملك وتفجيرات الإخوان واعتقالات الشيوعيين.

يعيش الطفل مع والده وحيدين حياة فقيرة معتمدين على معاش الأب في حجرة مؤجرة متشاركين الشقة مع مؤجرين آخرين.

تتعاطف فورا مع احتياج كل منهما للمرأة.

يفتقد الطفل حنان الأم ، ويفتقد الأب المرأة التي تؤنس وحشته وتقوم بدلا منه بالمهام المنزلية التي يقوم بهما دون نجاح كبير.

يحاول الأب مرات أن يتزوج أو أن يحصل على خادمة جيدة ولكن جهوده تتعثر.

يحاول الطفل أن يجد بديلا في ساكنة الحجرة المجاورة ويناديها "ماما تحية" ولكنها تغادر.

للطفل هواية طفولية تقليدية هي التلصص. يتسلل إلى الغرف الخالية ليطالع محتوياتها ويقلب محتويات الأدراج ويلصق عينيه وأذنيه بثقب المفتاح ، ويكتشف من خلال ذلك التفاصيل المرتبطة بالشخصيات الأخرى.


يتذكر الطفل أحداثا قديمة كتبت بخط سميك. في كل لحظة بؤس ووحدة وافتقاد للأم ، يتذكر الطفل لحظات السعادة القليلة في ذكرياته عن أوقات أسرته المثالية. وشيئا فشيئا نكتشف عبر الذكريات كيف انتهت به الأمور هو ووالده إلى الوحدة.

استخدم صنع الله في أعمال سابقة هذا التكنيك ، ومنها عمله الأول تلك الرائحة. والذي ضم رواية قصيرة بنفس العنوان تلته مجموعة من القصص القصيرة. لكن ليست هذه هي الصلة الوحيدة بين عمليه الأول والأخير .

في رواية تلك الرائحة وبعض القصص القصيرة التي تلتها ، وفي كتاب يوميات الواحات ، ما يبدو لي كقطع بازل وضعها صنع الله في مكانها أخيرا بقصه قصة طفولته كاملة - مع تعديل روائي بالطبع- في التلصص. في تلك الرائحة نرى اليساري الشاب الخارج من المعتقل بعد اصطدام ناصر مع الشيوعيين ثم إفراجه عنهم، نراه يعيش وحيدا ، ونرى علاقاته المتوترة مع أخت غير شقيقة ونرى جدة له من جهة والدته لا تكاد تذكره .

وفي القصص القصيرة قصة عن أب يعيش وحيدا مع طفلين ويستيقظ ليختبأ معهما في السندرة حتى تنتهي الغارة. وهذا المشهد موجود بالضبط مع تعديل بسيط في الرواية: مشهد غارة أثناء حرب 48. وهناك قصة قصيرة أخرى عن ذهابه لمحكمة شرعية حيث يقابل جدته ووالدته التي تتجاهله ويعود لوالده الذي يسأله عن والدته متلهف

في مقدمة يوميات الواحات ( وهي اليوميات التي كتبها أثناء تواجده في معتقل الواحات أوائل الستينات بتهمة الانضمام لتنظيم يساري) يمر مرورا سريعا على طفولته بذكره -دون تفاصيل- معيشته مع والده هو وشقيقته الصغرى ووصفه لشخصية والده، إضافة لجزء من رسالة لشقيقته في وسط اليوميات تحدثه عن أنها تعرف كيف تعب والده لكي يحتفظ بهما ، وجملة وسط اليوميات عن تذكره جو منزل "ماما تحية"، إضافة إلى حضور ضبابي لشخص باسم "خليل بيه" بين الوجود الحقيقي وبين كونه شخصية في عمل أدبي.

تستطيع أن تضع قطع الأحجية هذه في مكانها بعد قراءة الرواية.

لا يمكنك إلا أن تتعاطف مع وحشة الأب. إهانة الفقر. حب الأب لابنه. تعلق الطفل بأبيه وارتباط كل عالمه به. معاملة قاسية خفية من الأخت لأخيها غير الشقيق.

أثناء القراءة، كثيرا ما توقفت لأن المشاعر القوية التي تبعثها الرواية تغلبت علي - كمشهد إخبار الأب لصديقه عن مشاعره تجاه طفله وزوجته والدة الطفل، بينما الطفل متظاهر بالنوم- ولأمنح نفسي فرصة للتفكير في نفسي وعن الطفولة والوحدة.

أدرك أنني افترضت تطابقا بين طفل التلصص وبين الطفل صنع الله ، وهو غير منطقي لأنها عمل روائي، ولكن لأن الإشارات المتناثرة تشير إلى تجربة واحدة استقى الكاتب منها أول وآخر عمل له ،و لوضوح رسمه لصورة الأب على صورة والده *، أفترض أن صنع الله قدم صورة لطفولته مع بعض التعديلات الروائية. قد يكون مدى تلك التعديلات كبيرا وقد يكون قليلا. لا يمكنني أن أعرف، ولكنني لم أتمكن من تجاهل شعوري بالصدق أثناء قراءتي الرواية.

ربما لم يرسم صنع الله والده -الافتراضي- في صورة الأب المحتفظة بقدسيتها مخفيا لحظات ضعفه، ولكن ذلك جعل والده أكثر انسانية ، وكان آخر ما قاله هو أنه رغم كل ما حدث فهو يحب والده.

شعرت بالحزن وأنا أقول لصديق أنني أشعر أن هذا هو عمل صنع الله الأخير ، وأنه قد أغلق الدائرة التي وضع نقطتها الأولى في أول اعماله، وأنه قال ما لديه. قال صنع الله في لقاء صحفي قديم أنه أراد أن يكتب كل ما يعرف في روايته شرف - ذات المحتوى السياسي التوثيقي الكبير- لأنه كان مريضا وقت كتابتها وخشي أن يموت قبل أن يقول ما لديه، أعتقد أن هذا ينطبق أكثر على التلصص.

يمكن أن تكون هذه الرواية فيلما جميلا....

* في مقدمة كتابه يوميات الواحات ، يحكي صنع الله عن والده وصفاته التي تأثر ببعضها وتمرد على بعضها في سياق قصه للأسباب التي دفعت به إلى معتقل الواحات
مصدر الصورة

الأربعاء، أغسطس ٢٢، ٢٠٠٧

راني حُبَيبات

صحيح أن طعم المواد الحافظة يكاد يطغى على طعم البرتقال ، وأن الحبيبات تبدو كبرتقال لم يتم تصفيته بعد عصره، فإن الخليط في النهاية لا بأس به.