*خلفية :
- عن محرم بك:
محرم بك حي كان مستقراً للطبقة الوسطى في الزمن القديم ، و لكن الزمن تغير فأصبح حياً شعبياً و مستقراً للطبقة الوسطى الدنيا و الطبقة الدنيا و في بعض شوارعه الرئيسية الطبقة الوسطى الوسطى ، و إن كان الغالب عليه هو الفقر و بؤس الحال. في محرم بك نسبة كبيرة من المسيحيين أعلى من نسب تواجدهم في مناطق أخرى. شيئ قريب من شبرا تقريباً. الكثير من المحلات تعلق على الحائط نتيجة بها صورة العذراء أو المسيح. لا أريد أن أقدم صورة عن سكان الحي بأنهم مهووسون. و لكن في الواقع ، فإنني لاحظت أن لدى مسلمي هذا الحي احساس قوي بوجود " الآخرين" ، دوماً أسمع به قدراً كبيراً من العبارات العنصرية ، و ينظر الناس مدققين لوجهك و إلى معصمك و يسألونك عن اسمك. فسرت هذا بأنه نتيجة التواجد المسيحي الكبير بالحي ، و تصاعد الطائفية في الوطن كله ، و ربما بسبب القصة القديمة المكررة عن امتلاك المسيحيين لمحلات و المنافسة التجارية.. الخ
في انتخابات مجلس الشعب 2000، دفعت الحكومة بمرشح مسيحي ، لأن المنطقة بها تواجد مسيحي قوي ، و لكنه سقط في الانتخابات. سمعت حكايات عن عنف انتخابي كان في الواقع - حسب الحكاية - عنفاً ضد المرشح المسيحي و ناخبيه. بينما أعرف أناساً ذهبوا ليدلوا بصوتهم ليُسقِطوا لا مرشح الحكومة و لكن المرشح المسيحي. مرشح الحزب الوطني هذا العام عن دائرة غربال ماهر خلة - مسيحي أيضاً- لا فرصة له بعد هذا الذي حدث.
- عن الأحداث:
ربما لاحقاً...
*مشاهدات:
بعد الإفطار يوم الجمعة ، شاهدت على قناة الجزيرة خبراً عن مقتل شخص و اصابة 60 في مظاهرات أمام كنيسة مارجرجس في محرم بك بالإسكندرية. كانت المشاعد مروعة. بحر من الناس يندفع مهاجماً لتصده عصي صفوف من الأمن المركزي. يجذبون حواجز الأمن محاولين اختراقها. جنون . جنون. إنهم يحاولون حقاً اقتحام الكنيسة!!!
أقرر أن أذهب إلى محرم بك لأشاهد بنفسي. توقعت أن يكون الأمر قد انتهى . "على الأقل أسمع ما يقوله الناس"
أتصل بصديق و أطلب منه مرافقتي. يعتذر بأنه مشغول . يوصيني أن أنتبه و أتجنب "اللم" أو الاعتقالات بالجملة لكل الموجودين بالشارع و التي عادة ما تعقب مثل هذه الأحداث.
أحاول ايقاف تاكسي : " محرم بك". أفشل عدة مرات.
أنجح أخيرا. "شارع منشة يا أسطى". يقول لي السائق : " بس يا رب السكة متكونش مقفولة".
أقدر أن أفضل طريق للوصول هو شارع منشة الذي ينتهي عند شارع محرم بك الذي يضم كنيسة مار جرجس. منشة الذي يحمل الشارع اسمه هو البارون يعقوب منشة نمساوي الأصل ، رئيس الجالية اليهودية بالإسكندرية. اسكندرية أوائل القرن العشرين الكوزموبوليتانية بالطبع و ليست هذه الإسكندرية.
أنزل في منتصف الشارع و أمشي باتجاه نهاية الشارع. ألمح مكتبة دار الكتاب المقدس مغلقة - طبعاً - .بنهاية شارع منشة يمتد شارع محرم بك بالعرض من الغرب للشرق بينما يواصل جنوباً شارع الإسكندراني. عند التقاء الشوارع الثلاثة كان هناك تجمهر كبير. أقترب و أستمع لما يقوله الناس. عربات الترحيلات الزرقاء و الأمن المركزي الخضراء تقف في شارع محرم بك.
أنتبه فجأة إلى أن الناس تقف و تنظر باتجاه اليسار . أكتشف أن هناك إلى اليسار مظاهرة. " لسة فيه مظاهرة!!؟". بدأت عقب صلاة التراويح على ما يبدو. بضع مئات من الأشخاص و رجال الأمن المركزي سود الملابس.
انفجار مكتوم و يرتفع الدخان الأبيض. يركض الواقفون بالمقدمة فيركض الشارع كله تقريباً. يغطي البعض وجوههم بالمناديل خوفاً من الغاز المسيل للدموع. يعودون للاقتراب شيئاً فشيئاً.
أتلقى اتصالاً من زميل لي يعمل الليلة بالمستشفى. يقول أنه "سمع" في المستشفى أن هناك العديد من المصابين من المتظاهرين و من الجنود و أن ثلاثة متظاهرين قتلوا بطلقات الرش. آخ! هكذا يتصرف الأمن المركزي عندما تخرج الأمور عن السيطرة. أتذكر محمد السقا ، و أقرر أن أحتفظ بمسافة 200 متر بيني و بين المظاهرة. قد تكون إشاعة ، و لكنني لا أريد طلقة رش في بطني و لا غازاً مسيلاً للدموع في أنفي ، خاصة إذا كان ذلك في أحداث قبيحة مثل هذه. يقول لي " مش الموضوع خلص خلاص؟" . أنظر لدخان أبيض يتصاعد من جديد ، و نار تبدو مشتعلة بعيداً دون أن أتمكن من تحديد موقعها ، بينما يركض الناس من جديد و أقول له : " لأ مخلصش"
كانت الحياة تدور بصورة شبه طبيعية عند التقاطع. المحلات مفتوحة : بقال و جزار و سوبر ماركت. بائع الفول يقف بقدرة على عربة فول. غير الطبيعي كان التجمهر الكبير المتفرج و عربات الأمن و الأحداث الدائرة على بعد مئات الأمتار. انفجار مكتوم و دخان أبيض. غير الطبيعي كان التدافع الراكض ثم العودة. سيدات يشترين الفول لوجبة السحور و يركض بالقرب منهن شباب يهربون من الغاز. كلما اقتربت من المظاهرة زاد عدد المحلات المغلقة.
توقعت أن أرى ملتحين أو مرتدي جلاليب أو حاملي مصاحف. معظم من رأيت كانوا من يوصفون بشباب المناطق الشعبية. شباب "المنتئة". يدخلون للمظاهرة قليلاً ، ثم يخرجون ضاحكين ليستريحوا أو يشربوا سيجارة. استمعت لواحد منهم و هو يحكي عن صديقه الذي أخذ في التراجع مترقباً قنبلة غاز في الهواء و " في الآخر راح موقفها على صدره" و انفجر في الضحك. ظلوا يحكون عن ركض أحدهم جهة رجال الأمن المركزي ثم تراجعه في آخر لحظة مُهَوِشاً. لم يكونوا غاضبين . كانوا مستمتعين على ما يبدو. ينادون على بعضهم البعض بصوت عال. يركضون ذهاباً و إيابا و على وجوههم الابتسامة. " فينك يا حمكشة" أفكر في ما كتبه حمكشة عن 2010. يسأل رجل بائعاً شاباً في محل عن زميله فيقول له في عادية : " لأ مش هنا، هوا في المظاهرة"
يرتفع الهتاف من عند التظاهرة و ألمح قبضات ملوحة في الهواء " بالروح بالدم نفديك يا محمد" ... " الله أكبر" عربات اسعاف تأتي من مكان التظاهرة لتتوقف في صف عند التقاطع. زحام للعربات العابرة من منشة إلى الاسكندراني. تتوقف عربة عند التقاطع فيضغط سائقها بجنون على الكلاكس. السيدة المسنة التي تركب بجواره تصرخ في فزع. تصرخ فعلاً. أقدر أنها مسيحية. تعبر هذه العربة أخيراً.
أشاهد رجلا يسيل الدم من رأسه يتجه جهة عربة الإسعاف. فتى لا يمكن أن يكون أكبر من 16 عاماً بمقميص ممزق يمسك برأسه و يقول أنه تلقى ضربتين على الرأس و الذراع. ينخرط في نوبة حماس و تهديد ضد"هم"... يتحسر لأن الطريق الرئيسي مسدود ، و كلما حاول سلك الطرق الجانبية ليصل "لهم" وجدها مغلقة أيضاً.
شارع منشة يمتلئ فجأة بصفوف من الأمن المركزي و معهم مدرعتهم الخضراء. أتراجع 100 متر للوراء بينما يستقبلهم الواقفون بعيداً عن المظاهرة بهتاف " الله أكبر" ....يتجهون جهة المظاهرة. كانوا امدادات للقوات الأصلية.
أستمع لسائق عربة الاسعاف و هو يحكي عن رجل مسن توفى ظهراً. " كان عنده الربو و القلب . شم البتاع ده الغاز فجاله هبوط و مات. هنا بالزبط" و يشير إلى التقاطع. " ملحقناش نوصل بيه المستشفى ، بس خد بالك ، ده ميت متوضي و مصلي الجمعة و صايم و ميت بيدافع عن دينه. مفيش أحسن من كده".
لم أر حتى انصرافي شيئاً يزيد عما رأيته : هتافات و راكضون و شباب مستمتع بوقته و بعض الغاضبين و أناس متجمعون على بعد للفرجة و أمن مركزي و غاز مسيل للدموع و بعض المصابين. ظللت طوال وقت وجودي أستمع صامتاً لما يقوله المتوقفون المتناقشون. هذا بعض ما سمعت.
"هما أصلهم اللي اتفرعنوا"
" بيقولك عايزين يعملوا دولة مستقلة"
" الحكومة بتضرب في العيال كأنها بتضرب في كلاب"
" مفروض ميبقاش في ضرب و تكسير ، مفروض مثلا يعملوا مقاطعة لكل محلات المسيحيين لحد ما يعرفوا قيمتنا"
" حسني مبارك ال"...." هوا اللي بايعلهم دينه. ما هوا اللي بيطاطيلهم بعد ما زور الانتخابات"
" الضرب كان أجمد بعد صلاة الجمعة ، كل الناس كانت بتعيط في الشارع من الغاز"
" الصبح ، العساكر طلعوا يجروا في الشوارع الجانبية ورا العيال ، العيال استفردوا بيهم جوا و هات يا ضرب"
" و هو الواحد لو معندوش غيرة على دينه يبقى ايه اللي باقي"
" بيقولك في كذا واحد مسيحي اتضرب و هوا ماشي في الشارع"
" بيقولك عربية واحد مسيحي في الناحية التانية اتدغدغت"
" العيال سرقوا محل اكسسوارات بتاع واحد مسيحي ، بقوا يدخلوا و اللي ياخد مسجل و اللي ياخد بتاع و يجري"
"منهم لله الحكومة المفترية"
" هما لما يحطوا عسكري حراسة على كل كنيسة بيشوهوا صورة المسلمين كأننا يعني بنفتري على المسيحيين" ( كدت أن أخرق قاعدة الصمت و أتدخل للرد الذي سيكون : شخرة و "بص حواليك يا أخ. انتم بتحاولوا تقتحموا كنيسة" ثم شخرة أخرى و عودة للصمت. و لكنني تحكمت في نفسي)
" خد بالك اللي لابسين اسود دول هيطيحوا في الناس ضرب. أصل دي شغلتهم"
" الجزيرة كانت جايبة مظاهرات في الأزهر النهاردة ، ان شاء الله بكرة يبقى الموضوع منتشر بقى في كل حتة و يطلعوا العيال في مظاهرات في الجامعات و المدارس"
" عارف ده بيحصل ليه؟ عشان الناش مش لاقية تاكل . لو لاقيين ياكلوا مكانش هيبقى ده حالهم"
" يعني انت جاري و ساكنين جنب بعض ، يبقى هستفيد ايه لما أضرك. مفروض كلنا في وطن واحد"
طفل رث الثياب يركض و يهتف لوحده " الله أكبر ،الله أكبر"
أقرر أن أتصل بمينا. أبتعد عن المكان لأتحدث في هدوء دون مضايقة و دون أن يستمع شخص ما لكلمة "آلو يا مينا" . أتوغل في الاسكندراني و أحدثه. أحكي له عن المصادمات و الأمن و عن الأمر الذي يبدو بلا نهاية و عن المظاهرة التي تتحول إلى شغب و عن تعامل الدولة المنحصر بزيادة عدد الأمن المركزي و عن غياب العقل و العقلاء و عما يبدو سهولة كبيرة في استخدام العنف من الأمن و عن منطقة شعبية أخذت في الاشتعال و عن عبثية الأمر و جنونه و أنه بدأ دون سبب تقريباً و تصاعد بصورة عجيبة و عن عداوة كامنة للسلطة و عن فتنة طائفية لا أصدق أنني أراها بعيني . أعبر له عن قلقي. يبدو مصدوماً. أتحدث بينما أمشي في شارع جانبي يتجه بعيداً عن مكان المصادمات لأجده مسدوداً بصفوف من الأمن المركزي. أفكر أن وقت الرحيل قد حان قبل أن أعجز عن ذلك.
أفكر بينما أمشي في شارع منشة الهادئ مقارنة بشارع محرم بك في سكان منطقة محرم بك المسيحيين و الذين يجلسون الآن في بيوتهم المغلقة عليهم في رعب أعجز عن تصوره.
عند مدخل محرم بك في مواجهة الاستاد وقف ما يقرب من 50-60 عربة أمن مركزي خضراء و بعض المدرعات.
يتصل زميلي بي من المستشفى بعد ساعات " شكل الموضوع وصل لكرموز ، و في اشاعات ان في سرقة محلات في غيط العنب" إشاعات
على القهوة أجلس مع أصدقائي و أحكي لهم و أقول : "عاش الهلال مع الصليب. تحيا مصر بلد الحب و التسامح"