لا أعتقد أن أحمد خالد توفيق في حاجة إلى تقديم ، فرواياته من إصدرارت روايات مصرية للجيب قرأها الملايين. كانت رواياته جزءً من ثقافة جيل كامل تكفي الإشارة إلى أحد مفرداتها ليتم التفاهم ( أتذكر ليلة طويلة على رصيف شارع عبد الخالق ثروت، في الثالثة فجراً كان الرصيف بارداً جداً وصلباً جداً ومرهقاً جداً، قلت ذلك لمن يجلس بجواري، فابتسم وقال لي أنها ساعة الذئب. ابتسمت له ، بينما تساءل ثالث تجاوز عمره الثلاثين عن معنى ذلك، فقلنا له أنها مصطلحات جيل أصغر). كانت رواياته هي أول مكان قرأت فيه أسماءً مثل كونديرا وكامو وصنع الله إبراهيم وماركيز...الخ. كنت مقتنعاً أنه قادر على أن يكتب أكثر ، وتعزز رأيي بقراءتي لمقالاته المتميزة المنشورة في الدستور أسبوعياً. لذلك كنت سعيداً بصدور أولى رواياته: يوتوبيا.
تدور أحداث الرواية في المستقبل القريب، حيث ينعزل الأغنياء في مجتمع مسور في الساحل الشمالي اسمه يوتوبيا يحميه المارينز، بينما "الأغيار" يمورون خارجه. لا يهتم المؤلف بالإشارة إلى أسماء قد تشير إلى شخصيات ومجتمعات حالية، وتحمل أولى الصفحات اعتبار أي تشابه مماثل محض مصادفة غير مقصودة، على الرغم من أنه يؤكد إيمانه " يقيناً أن هذا المكان سيكون موجوداً عما قريب".
يقدم المؤلف صورة كابوسية للمستقبل: فسكان يوتوبيا انحطوا إلى ما يشبه الحيوانات الشهوانية. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ( باستثناء أخلاق رأسمالية بالحفاظ على الملكية الفردية لبعضهم). يحيون محاولين استخلاص كل لذة ممكنة من الحياة من الطعام والجنس والمخدرات، معانين من الملل الذي يتغلبون عليه بالتسلي باصطياد الأغيار.
أما الأغيار فيحيون في أطلال مدن مصر القديمة. كل شيئ انهار: لا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي. عالم بلا قانون ولا دولة، عصابات مخدرة بمخدرات رديئة تتصارع كالضباع للبقاء على قيد الحياة. سوقية وجنس ووحشية وجريمة. لا تاريخ ولا هوية ولا أخلاق ولا دين فكل هذا يعد ترفاً.
ذكرني هذا بآلة الزمن وثنائية الإيلوي الخانعين الضعفاء فوق الأرض، والمورلوك المتوحشين العاملين تحت الارض. لكن كلاً من الروايتين ابنة عصرها، فرواية ويلز تفكر في مستقبل البشرية في المستقبل البعيد متأثرة بأفكار النشوء والارتقاء والأفكار الاشتراكية ( كان ويلز اشتراكيا فابياً). بينما تفكر يوتوبيا في مستقبل مصر القريب. يمد المؤلف الخط إلى آخره وصولاً إلى القبح المطلق. نجد مظاهر نعرفها وقد توحشت وشملت كل شيئ. المفردات المصرية المألوفة لنا: (الشوارع الغارقة في الصرف الصحي، مجرمو المناطق العشوائية، مدمنو الكلة، الطعام الرديء المغشوش، انهيار الطبقة الوسطى، الشباب متعاطو المخدرات، المجتمعات المسورة - اقرأ عنها دراسة إيريك دينيس في كتاب القاهرة الكوزموبوليتانية- ، الأثرياء المحتكرون المتعاملون مع إسرائيل...الخ ) تتضخم بصورة كابوسية وتبتلع كل شيئ آخر. يتحول الكل - فقراء وأثرياء- إلى كتل من البروتين الحيواني الذي تحركه الغرائز في عالم بلا رحمة.
يروي المؤلف الرواية على لسان بطلين ، أحدهما من سكان يوتوبيا والآخر من الأغيار. تتعاقب فصول الكتاب ليكون كل منهما الراوي الشخص الأول في أحدها. وضع المؤلف كلاً منهما في مقابلة الآخر. كلاهما يقرأ في عالم لا يقرأ، ويعرف أكثر من المحيطين به، قبل أن يدفعهما للقاء بعضهما. بطل الأغيار هو ابن الطبقة الوسطى القديمة الذي لا زال يحتفظ بنقطة مضيئة وسط صدره رغم كل القبح الذي يحيا به. بطل يوتوبيا واقعي جداً ولا يزيده إدراك العالم إلا قسوة. حرص أيضاً على أن يضع كلاً منهما في مواقف متشابهة ليكشف عن تصرفاتهما المتباينة في حبكة متقنة ومثيرة يتيميز بها المؤلف.
الرواية كابوسية لكنها أيضاً قاسية جداً. يصيح بطل الأغيار:
"ثمة شخص جمع الأوغاد والخاملين والأفاقين وفاقدي الهمة من أرجاء الأرض في وطن قومي واحد هو مصر... لهذا لا تجد في ألمانيا وغداً... لهذا لا تجد في الأرجنتين أفاقاً... كلهم هنا يا صاحبي........هأنتم أولاء يا كلاب قد انحدر بكم الحال حتى صرتم تأكلون الكلاب !.. لقد أنذرتكم ألف مرة .. حكيت لكم نظريات مالتوس وجمال حمدان ونبوءات أورويل وهـ .ج. ويلز..لكنكم في كل مرة تنتشون بالحشيش والخمر الرخيصة وتنامون ... الآن أنا أتأرجح بين الحزن على حالكم الذي هو حالي، وبين الشماتة فيكم لأنكم الآن فقط تعرفون .. غضبتي عليكم كغضبة أنبياء العهد القديم على قومهم، فمنهم من راح يهلل ويغني عندما حاصر البابليون مدينته .. لقد شعر بأن اعتبارهقد تم استرداده أخيرًا حتى لو كانت هذه آخر نشوة له .. إنني ألعنكم يا بلهاء .. ألعنكم !"بينما يقول بطل يوتوبيا:
"يا لقذارتك.. يالقذارتك.. ليس فقرك ذنبنا... ألا تفهمين بعد أنكم تدفعون ثمن حماقتكم وغبائكم وخنوعكم؟... عندما كان آباؤنا يقتنصون الفرص كان آباؤكم يقفون أمام طوابير الرواتب في المصالح الحكومية . ثم لم تعد هناك مصالح حكومية.. لم تعد هناك رواتب.. أنتم لم تفهموا اللعبة مبكراً لهذا هويتم من أعلى إلى حيث لا يوجد قاع... ما ذنبنا نحن؟.. عندما هب الجميع ثائرين في كل قطر في الأرض، هززتم أنتم رؤسكم وتذرعتم بالإيمان والرضا بما قسم لكم.. تدينكم زائف تبررون به ضعفكم... أنتم أقل منا في كل شيئ ... هذه سنة الحياة... يجب أن تقبلوها... لم يعد أحد قادراً على تغيير أي شيئ"
تبقت لدي ملاحظتان عن الرواية أولاها هو تفكير في أن انهيار الدولة الحديثة ومؤسساتها قد يعني حرب الكل على الكل كما يرى هوبز ، وكما شاهدنا في العراق، لكنه ربما أيضاً يعني ظهور بنى تنظيمية أخرى للمجتمعات ، سواء كانت استعادة لبنى تقليدية مفككة أو بنى جديدة تماماً.
الثانية هي اقتباس طويل من حلقة من برنامج مع هيكل:
"شيمون بيريز العتيد رئيس دولة إسرائيل الحالي، وبيقول له إيه؟ بيقول له في صراع قادم في الشرق الأوسط، لأنه بقى في الشرق الأوسط، في العالم العربي وهو ملحوظ وهو لاحظه وهو ينزل بالطائرة فوق القاهرة، لاحظه جدا، لأنه لاحظ أنه في ملاعب غولف كثيرة قوي حوالين القاهرة ما يسمى بالمنتجعات الحديثة، ولاحظ في جبال من الزبالة جنب عشوائيات، وقال له شيمون بيريز بيقول أنه هو يتصور أن إسرائيل، أمل إسرائيل معلق بملاعب الغولف، التعامل مع أصحاب ملاعب الغولف وليس معلق بالزبالة، بمقالب الزبالة بالعشوائيات. وبيقول أنه إيه؟ بيقول حاجة غريبة قوي، بيقول أنه هنا، مع الأسف الشديد، أكره أقول، إن التدين هنا، مش حيجيب كلمة الإسلام، إن التدين هنا نحن لا نستطيع أن نتعامل معه، لكن ملاعب الغولف هنا فيها التكنولوجيا والتكنولوجيا أقدر على فهمنا، الناس العايشين فيه، والتعامل معنا. وأنا قلت، تدخلت وقلت، قلت للورد باتين وده كان كلامي وهو سمعه مني وكلهم سمعوه مني، قلت لهم في هناك في ناس كثير قوي خايفين على مستقبل الطبقة المتوسطة في العالم العربي بيسألوا أين هي، وأنا بأقول الطبقة المتوسطة موجودة وهي تنمو لكنها غيرت مواقعها، إحنا كنا نبص عليها زمان في مواقع الوظائف، وظائف الحكومة، والقضاء، والتدريس والمدرسين أساتذة الجامعة، وإلى آخره الطبقة المتوسطة، لكنها انتقلت، وشيمون بيريز له حق في جزء معين أنها انتقلت من مواقعها إلى مواقع جديدة، ممكن يكون في قربها مواقع غولف، وممكن تكون بتفهم التكنولوجيا، لكن حتى هذه الطبقة المتوسطة أكثر من سوف يدرك حجم المطلوب للأمن القومي العربي وأن تقف هي وتدافع عنه، أظن بمقدار ما تنمو في مصالحها، بمقدار ما تطمئن، بمقدار ما عندها أمن، بمقدار ما عندها ديمقراطية، بمقدار ما عندها مشاركة، أنا أظن أن الطبقة الوسطى العربية والموجودة قرب ملاعب الغوف والفاهمة للتكنولوجيا سوف تعرف صراع التحدي وصراع الحياة الذي يتمثل بالدرجة الأولى في أمن قومي عربي يعرف أهدافه ويعرف كيف يدير صراعاته ويعرف مصادر التهديد التي يمكن يواجهها"
ختاماً، هي - دون شك- رواية تستحق القراءة.
* ملحوظة هامشية: هناك بالفعل، مدينة مسورة في السادس من أكتوبر تحمل اسم يوتوبيا ....
هناك ٥ تعليقات:
لم ألحق أحمد خالد توفيق، لذا أستغرب تأثر الكثيرين به. تدويتك تذكرني بكتاب الست نعيمة الصغير عن الأحياء المغلقة في الولايات المتحدة و إسرائيل.
ألم يحن الوقت لتنظيم أحياء مضادة في انتظار انهيار الأنظمة.
ما قريت تعليقك على الرواية علشان مفيش حاجة تتحرق على منها...ناوية اقراهاإن شاء الله فى خلال اليومين اللى جايين و بعدين ساعتها اقرا تدوينتك و أرد بطريقة أكثر واقعية على البوست و الحمد لله انت طمنتنى إن الرواية حلوة لإن ساعات بستخون أحمد توفيق فى الروايات الطويلة
انا سمعت عنها من ناس اصحابى بس ما كنتش اعرف بتتكلم عن ايه
انا دلوقتى قريت الفكرة العامة اللى انت قدمتها ،و هجيبها و اقراها ان شاء الله
انا لسه جايب الرواية
و الحقيقة لسه ما قريتهاش
بس تحليلك لها شوقني اكتر ان انا اقراها
gamda awy el rewaya ana 2aretha f 5amas sa3at makontesh 2ader 2a2om a3mel ay 7aga
إرسال تعليق