السبت، أغسطس ١٣، ٢٠٠٥

كفاية اعتقال

بدأت اللجنة القومية للدفاع عن سجناء الرأي حملة الخمسين يوم من أجل إطلاق المعتقلين بعنوان لتكن معتقلاتنا خالية يوم 5 سبتمبر 2005.

جاء هذا متوازيا مع استمرار استضافة نقابة المحامين للنساء المعتصمات حتى الافراج عن ازواجهن و أبنائهن المعتقلين

الخميس الماضي 11 أغسطس نظم صحفيون من أجل التغيير يوما للتضامن مع المعتقلين و أسرهم موزع النشاط بين نقلبتي الصحفيين و المحامين..

(أعتذر لأن ذكري لما جرى في ذلك اليوم يفتقد الصور لأنه على الرغم من التقاطي العديد منها ، فقد أصيبت شريحة ذاكرة الكاميرا بالعطب و عجزت عن الحصول على الصور المخزنة عليها لسوء الحظ..)

في مدخل نقابة الصحفيين كان هناك معرض للكاريكاتير عن قوانين الحبس و القيود المفروضة على الصحافة.
وجدت لوحة معلقة فاتجهت ناحيتها لأصورها.
كان هناك مجموعة من الأطفال يجلسون تحت اللوحة
بمجرد اقترابي منهم قال أحدهم : " يا ماما ! هوا عامل كده ليه؟"
فطلب منه شاب الصمت :" هششش ، عيب!" ، و تظاهرت بأنني لم أسمع ما قاله الطفل.
بعد أن صورت اللوحة ، التف الاطفال حولي مطالبين بصورة لهم ، فالتقطت لهم صورة و صورة أخرى ، و ضحكوا في سعادة بالغة عندما شاهدوا أنفسهم على شاشة الكاميرا.
ثم تركوني و انطلقوا راكضين.
هؤلاء الأطفال معتصمون مع أمهاتهم : نساء المعتقلين في وادي النطرون و غيره من سجون مصر.

بجوار معرض الكاريكاتير ، كانت هناك مجموعة من رسومات هؤلاء الأطفال.
لفتت نظري لوحة لما يبدو كزيارة أم منقبة مع طفلين لأب ملتح يقف أمام قضبان السجن ، و لوحة أخرى رسمها طفل لمظاهرة تطالب بالافراج عن المعتقلين واضعا رجال الأمن المركزي وراء حواجز حديدية.

لاحقا في المظاهرة أمام نقابة المحامين سأشاهد طفلة متعلقة بأحد تلك الحواجز و تلعب في سعادة ملقية بجسدها الى الخلف و الأمام غير مبالية بكل الضجة حولها.

ثم انتقلنا الى مدخل نقابة المحامين....

عند مدخل نقابة المحامين المطل على شارع رمسيس بدأ التجمع. التجمع المحاط بألوف الأمن المعتادة - أف!-
كانت هناك مجموعة من الناشطات النسويات يضعن شارات الشارع لنا ، و عدد محدود من نشطاء كفاية و شباب من أجل التغيير من مدمني المظاهرات ( كمال خليل ، وائل خليل ، أحمد تعلب ، محمد الشرقاوي..الخ) و الجزء الأكبر من الحضور كان أمهات و زوجات المعتقلين المعتصمين في نقابة المحامين منذ أسابيع، أغلبهن يرتدين النقاب و بينهن نسوة يرتدين ملابس مميزة للقاطنات في الريف. و كان هناك الاطفال الذين شاهدتهم يلهون في مدخل نقابة الصحفيين و معهم عمر ابن ساهر جاد الصحفي الذي نشرت أخبار اليوم صورته و هو يضرب ثلاثة ضباط و جندي :)

لم يكن هناك لافتات "كفاياوية" مرفوعة على الاطلاق ، انقسمت اللافتات بين مطالبات بالافراج عن المعتقلين و تساؤل عن مصير 20 ألف معتقل سياسي في مصر و اعلان عن اعتصام مستمر حتى خروج المعتقلين ، و بين لوحات تضم كل واحدة منها صورة لمعتقل و اسمه و تاريخ القبض عليه. يظهر في الصور شبان صغار و رجال يبتسمون في مواجهة الكاميرا و يبدون جاهلين بمصيرهم : محمد فؤاد الدسوقي ، محارب محمد عبد الوهاب ، عبد المنعم محمد محمد ، محمد فارس ابراهيم ، رفاعي أحمد امام ، يحيى عبد الله أحمد ... و غيرهم

وقفت نساء المعتقلين و أمهاتهم في المقدمة رافعين صورهم ، و افتتح الهتاف حذيفة و هو طفل لا يتجاوز عمره عشرة سنوات كان قد أراني لوحته التي رسم فيها عينا دامعة خلف قضبان.


توزعت قيادة الهتاف بين هتيفة شباب من أجل التغيير و بين زوجات المعتقلين و أبنائهم و بناتهم و أمهاتهم..

ركزت الهتافات على قضية المعتقلين و تجنبت تماما الاقتراب من الرئيس حسني مبارك ، و استمعت لسيدة منقبة من المعتصمات تطالب أحد اعضاء كفاية بأن لا يرددوا أي هتاف ضد مبارك.

" قالوا حرية و قالوا قانون ... و الشرفاء جوة السجون"
" يا حرية فينك فينك فينك ، الطوارئ بينا و بينك"
" يا أخانا يا أخانا ... كيف العتمة في الزنزانة؟"
" اكتب على حيطة الزنزانة ، الاعتقال عار و خيانة"
" اكتب على حيطة الزنزانة ، الطوارئ عار و خيانة"
" يا سيادة النائب العام ، الافراج الفوري التام"
" عايزين نيابة حرة ، العيشة بقت مرة"
" عسكر عسكر عسكر ليه؟ احنا قتلنا ولا ايه؟"
" آه يا حكومة قطع الايد ... بكيتينا في ليلة العيد"
" بنت النيل واقفة تنادي... في الفجرية اعتقلوا ولادي"
" ساكت ساكت ساكت ليه... بعد اخواتنا فاضل ايه؟"
"مش هنهادن مش هنلين ، هاتوا ولادنا المعتقلين"
"سيبوهم و اعتقلونا"
"حسبي الله و نعم الوكيل"
" زود زود في المباحث ، كل الشعب بظلمك حاسس"
" أمن الدولة كلاب الدولة"
" معتصمين معتصمين ، حتى خروج المعتقلين"


التفتت أم معتقل الى مجموعة من المعتصمات و "شخطت" فيهن عندما لاحظت خفوت أصواتهن: " ما تردوا وراهم!"

الأطفال يبدون معتادين على هذه الأجواء ، حذيفة يتسلق حاجزا و يقود الهتاف من فوقه ، الطفلة التي كانت تلعب على الحواجز المعدنية تقف على سور النقابة و تحمل صورة والدها.


يظهر شاب ملتح و يمسك الميكروفون و يكبر عدة مرات ، ثم يهتف : " يسقط يسقط حسني مبارك!"
ضجة و اعتراض . جذبته الكثير من الأيادي و سحبوه بعيدا الى داخل النقابة شارحين له الموقف ، فيما كانت زوجات المعتقلين يدمدمن محتجات.

سيدة مسنة ترتدي ملابس ريفية تنخرط في نوبة ولولة و صراخ و تضرب رأسها ثم تسقط أرضا. يحملونها الى داخل النقابة. تعتني بها عايدة سيف الدولة. تبكي السيدة بعد أن استفاقت و تحكي عن ابنها سامي أمين المعتقل منذ 6-6-2004. تسند سيدة منقبة رأسها و تربت عليها و تمسح على رأسها.
بينما أصورهما ، مدت السيدة المنقبة يدها لي بورقة تحمل بيانا.
تحوي الورقة خطابا مفتوحا من عبد المنعم محمد السروجي ، بسجن وادي النطرون 2ك 97 ، محامي بالاستئناف العالي و مجلس الدولة معتقل منذ اوائل يناير 1993.
يقول فيها :(( أنا الذي ذهبت الى أمن الدولة بنفسي بناء على طلبهم و لكن تم اعتقالي و قد قدمت اقرار التوبة الذي طلبوه مني منذ 1-5-1994 و لكن ليس لي أي واسطة و لذلك فقد عرضت على حضرات ضباط مباحث أمن الدولة كل هذه العروض:
أولا: أن يتكرم السادة الضباط بوضع جدول زمني يومي لي بتحدد فيه ما يجب أن أفعله يوميا من أول دخول الحمام حتى النوم فان لم ألتزم به دقيقة واحدة يعاد اعتقالي بل وجب قتلي لأن القتل أرحم من الاعتقال في هذه البلاد و التي بلا فخر سجنت الأنبياء ظلما و زورا و رحم الله سيدنا يوسف عليه السلام.
ثانيا: عرضت على ضباط مباحث أمن الدولة اذا طلبوا مني عدم الخروج من القرية فلن أخرج من بيت العائلة و اذا طلبوا مني عدم الخروج من البيت فلن أخرح من شقتي و اذا طلبوا مني عدم الخروج من الشقة فلن أغادر السرير حتى و لو أكلتني قرح الفراش فالموت بها أهون من الاعتقال في هذا البلد.
ثالثا: عرضت على السادة ضباط مباحث أمن الدولة أن يتم بتر أي عضو من اعضائي يرون فيه أي نوع من الارهاب حسب رؤيتهم هم فقط فلا مانع عندي أن تقطع يدي أو رجلي اذا كانت تشكل ارهابا ثم يطلق بعدها سراحي و ما المانع أن تفقأ عيني اذا كانت نظراتي ترهب أحدا ثم يطلق بعدها سراحي. بل و ما المانع أن تقطع رأسي لأستريح من تلك التهمة و أستريح من اعادة اعتقالي و تسلم باقي الجثة لأهلي ليرتاحوا هم ( أجزاء غير واضحة) طوال ثلاثة عشر عاما.

أخيرا لا أعرف كيف تنتفي عني هذه التهمة [تهمة ارهابي] و لماذا لم تتم محاكمتي حتى الآن و هل لا تنتفي هذه التهمة عن أي مسلم حتى يتم تغيير ديانته؟ أفيدونا ، أفادكم الله.

رابعا: عرضت على السادة ضباط مباحث أمن الدولة ما هو أشد من ذلك بكثير و لكن أستحي ذكره في هذا المقام فلكل مقام مقال.

أخيرا لا أعرف أي خطر يمثله أطلال انسان مثلي دخل الى المعتقل عمره 28 عاما و هو الآن يتجاوز 41 عاما و عمره الحقيقي ثمانون عاما و ربما كان صاحب الثمانين أكثر صحة مني و شبابا فقد تكاثرت عليَّ الأمراض من السكر و ارتفاع ضغط الدم و قرحة المعدة و البواسير بالاضافة الى التهاب الأعصاب و الاكزيما المزمنة و الارتيكاريا العصبية و الانزلاق الغضروفي نتيجة تآكل الفقرات الرابعة و الخامسة العجزية كما ظهرت في صور الأشعة السينية التي أجريتها في سجن الفيوم العمومي عام 1997 و كذلك ظهرت في الأشعة السينية التي أجريتها في ليمان أبو زعبل عام 2001 و كذلك ظهرت في الأشعة السينسة التي أجريت لي في ليمان وادي النطرون رقم 440 عام 2004 و أظهرت تآكل و التهابات بالاضافة الى زوائد عظمية على جانبي الفقرات الرابعة و الخامسة من نهاية العمود الفقري.))

و ينهي خطابه بطلبه أن يمكن من التنازل عن الجنسية المصرية و أن يمنح لجوء سياسيا في أي بلد آخر حتى و لو كان اسرائيل...

أحس بثقل يملأ نفسي . أنظر لوجه من الوجوه المرفوعة فوق اللافتات و أقرأ : معتقل منذ خمسة عشر عاما.... ياااااااااه! 15 عاما! و انظر لوجه أم تحمل صورة معتقل و تقبلها ثم ترفعها من جديد..
أو أقرأ الورقة التي أعطتها لي تلك الزوجة و فيها نداء الاستغاثة السابق.
أحاول أن اتخيل حياة زوجة شابة قضت أحلى سني عمرها تنتظر خروج زوجها من المعتقل الذي دخله في العشرينات من عمره ليظل فيه حتى هذه اللحظة و عمره 41 عاما محملا بقائمة طويلة من الأمراض المزمنة.

أجلس على السلم و أفكر كيف تحول اعتقال الإسلاميين الى شيئ طبيعي لا يستوجب الاحتجاج؟ كيف أصبح الاعتقال الدوار للمتدينين دخولا و خروجا للمعتقلات حقيقة من حقائق الحياة لا تسترعي الانتباه؟ مجرد شيئ تعرفه و يعد تكراره مجرد تكرار أخبار قديمة؟

كمال خليل يبدأ في قيادة الهتاف مطالبا بالافراج عن المعتقلين مناديا على أسمائهم اسما اسما...

تسقط سيدة مسنة أخرى أرضا و تحمل الى داخل النقابة. يمددونها أرضا. أمد يدي و أتحسس نبضها : نبض متسارع و عرق بارد. أسأل: " عندها سكر؟" تجيبني سيدة منقبة : " أيوه". أفكر أنها غيبوبة نقص سكر.
أرفع السيدة عن الأرض و أسند ظهرها الى ركبتي ، شعرها متناثر ، و مختلط بمياه متسخة متجمعة على أرض النقابة. أحفادها يبكون . أتركها لرعاية عايدة سيف الدولة .

تنتهي المظاهرة أخيرا و يحين وقت الانتقال الى نقابة الصحفيين.

أكمل لاحقا ان شاء الله.

ليست هناك تعليقات: